قوله تعالى : { وآية لهم أنا حملنا ذريتهم } قرأ أهل المدينة والشام ، و يعقوب : ( ( ذرياتهم ) ) بجمع ، وقرأ الآخرون : ( ( ذريتهم ) ) على التوحيد ، فمن جمع كسر التاء ، ومن لم يجمع نصبها ، والمراد بالذرية : الآباء والأجداد ، واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد ، { في الفلك المشحون } أي : المملوء ، وأراد سفينة نوح عليه السلام ، وهؤلاء من نسل من حمل مع نوح ، وكانوا في أصلابهم .
( وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ، وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ، وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون ، إلا رحمة منا ومتاعاً إلى حين ) . .
إن في السياق مناسبة لطيفة بين النجوم والكواكب السابحة في أفلاكها ، والفلك المشحون السابح في الماء يحمل ذرية بني آدم ! مناسبة في الشكل ، ومناسبة في الحركة ، ومناسبة في تسخير هذا وذلك بأمر الله ، وحفظه بقدرته في السماوات والأرض سواء .
وهذه آية كتلك يراها العباد ولا يتدبرونها . بل هذه أقرب إليهم وأيسر تدبراً لو فتحوا قلوبهم للآيات .
ولعل الفلك المشحون المذكور هنا هو فلك نوح أبي البشر الثاني ؛ الذي حمل فيه ذرية آدم .
يقول تعالى : ودلالة لهم أيضًا على قدرته تعالى : تسخيره البحر ليحمل{[24758]} السفن ، فمن ذلك - بل أوله - سفينة نوح ، عليه السلام ، التي أنجاه الله تعالى فيها بمن معه من المؤمنين ، الذين لم يبق على وجه الأرض من ذرية آدم غيرهم ؛ ولهذا قال : { وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } أي : آباءهم ، { فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } أي : في السفينة [ الموقرة ]{[24759]} المملوءة من الأمتعة والحيوانات ، التي أمره الله أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين .
قال ابن عباس : المشحون : المُوقَر . وكذا قال سعيد بن جبير ، والشعبي ، وقتادة ، [ والضحاك ] {[24760]} والسدي .
وقال الضحاك ، وقتادة ، وابن زيد : وهي سفينة نوح ، عليه السلام .
{ وآية لهم أنا حملنا ذريتهم } أولادهم الذين يبعثونهم إلى تجارتهم ، أو صبيانهم ونساءهم الذين يستصحبونهم ، فإن الذرية تقع عليهن لأنهن مزارعها . وتخصيصهم لان استقرارهم في السفن أشق وتماسكهم فيها أعجب ، وقرأ نافع وابن عامر { ذرياتهم } . { في الفلك المشحون } المملوء ، وقيل المراد فلك نوح عليه الصلاة والسلام ، وحمل الله ذرياتهم فيها أنه حمل فيها آباءهم الأقدمين وفي أصلابهم هم وذرياتهم ، وتخصيص الذرية لأنه أبلغ في الامتنان وأدخل في التعجب مع الإيجاز .
{ آية } معناه علامة ودليل ، ورفعها بالابتداء وخبره في قوله { لهم } ، و { أنا } بدل من { آية } وفيه نظر ، ويجوز أن تكون «أن » مفسرة لا موضع لها من الإعراب ، والحمل منع الشيء أن يذهب سفلاً ، وذكر الذرية لضعفهم عن السفر فالنعمة فيهم أمكن ، وقرأ نافع وابن عامر والأعمش «ذرياتهم » بالجمع ، وقرأ الباقون «ذريتهم » بالإفراد ، وهي قراءة طليحة وعيسى ، والضمير المتصل بالذريات هو ضمير الجنس ، كأنه قال ذريات جنسهم أو نوعهم هذا أصح ما اتجه في هذا ، وخلط بعض الناس في هذا حتى قالوا الذرية تقع على الآباء وهذا لا يعرف لغة ، وأما معنى الآية فيحتمل تأويلين : أحدهما قاله ابن عباس وجماعة ، وهو أن يريد ب «الذريات المحمولين » أصحاب نوح في السفينة ، ويريد بقوله { من مثله } السفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة ، وإياها أراد الله تعالى بقوله { وإن نشأ نغرقهم } ، والتأويل الثاني قاله مجاهد والسدي وروي عن ابن عباس أيضاً هو أن يريد بقوله { أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون } السفن الموجودة في بني آدم إلى يوم القيامة .
ويريد بقوله { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } الإبل وسائر ما يركب فتكون المماثلة في أنه مركوب مبلغ إلى الأقطار فقط ، ويعود قوله { وإن نشأ نغرقهم } على السفن الموجودة في الناس ، وأما من خلط القولين فجعل الذرية في الفلك في قوم نوح في سفينة وجعل { من مثله } في الإبل فإن هذا نظر فاسد يقطع به قوله تعالى : { وإن نشأ نغرقهم } فتأمله ، و { الفلك } جمع على وزنه هو الإفراد معناه الموفر ، و { من } في قوله { من مثله } ، يتجه على أحد التأويلين : أن تكون للتبعيض ، وعلى التأويل الآخر أن تكون لبيان الجنس فانظره ، ويقال الإبل مراكب البر .
انتقال من عدّ آيات في الأرض وفي السماء إلى عد آية في البحر تجمع بين العبرة والمنة وهي آية تسخير الفُلْك أن تسير على الماء وتسخير الماء لتطفو عليه دون أن يغرقها .
وقد ذكَّر الله الناس بآية عظيمة اشتهرت حتى كانت كالمشاهدة عندهم وهي آية إلهام نوح صنع السفينة ليحمل الناس الذين آمنوا ويحمل من كل أنواع الحيوان زوجين لينجي الأنواع من الهلاك والاضمحلال بالغرق في حادث الطوفان . ولما كانت هذه الآية حاصلة لفائدة حمل أزواج من أنواع الحيوان جُعلت الآية نفس الحمل إدماجاً للمنة في ضمن العبرة فكأنه قيل : وآية لهم صنع الفُلك لنحمل ذرياتهم فيه فحملناهم .
وأطلق الحَمل على الإِنجاء من الغرق على وجه المجاز المرسل لعلاقة السببية والمسببية ، أي أنجينا ذرياتهم من الغرق بحملهم في الفُلك حين الطوفان .
والذريات : جمع ذرية وهي نسل الإِنسان . و { الفلك المشحون } : هو المعهود بين البشر في قصة الطوفان ، وهو هنا مفرد بقرينة وصفه بالمفرد وهو { المَشْحُونِ } ولم يقل : المشحونة كما قال : { وترى الفلك فيه مواخر } [ فاطر : 12 ] وهو فلك نوح فقد اشتهر بهذا الوصف في القرآن كما في سورة الشعراء ( 119 ) { فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون } ولم يوصف غير فلك نوح بهذا الوصف .
وتعدية { حَمَلْنَا } إلى الذريات تعدية على المفعولية المجازية وهو مجاز عقلي فإن المجاز العقلي لا يختص بالإِسناد بل يكون المجاز في التعليق فإن المحمول أصول الذريات لا الذريات وأصولها ملابسة لها .
ولما كانت ذريات المخاطبين مما أراد الله بقاءه في الأرض حين أمر نوحاً بصنع الفلك لإِنجاء الأنواع وأمره بحمل أزواج من الناس هم الذين تولد منهم البشر بعد الطوفان نُزّل البشر كله منزلة محمولين في الفلك المشحون في زمن نوح ، وذكر الذريات يقتضي أن أصولهم محمولون بطريق الكناية إيجازاً في الكلام ، وأن أنفسهم محمولون كذلك كأنه قيل : إنا حملنا أُصولهم وحملناهم وحملنا ذرياتهم ، إذ لولا نجاة الأصول ما جاءت الذريّات ، وكانت الحكمة في حمل الأصول بقاء الذريات فكانت النعمة شاملة للكل ، وهذا كالامتنان في قوله : { إنّا لمّا طغى الماءُ حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة } [ الحاقة : 11 ، 12 ] .
وضمير { ذُرَّيَاتَهُم } عائد إلى ما عاد إليه ضمير { لَهُمْ } أي العباد المراد بهم المشركون من أهل مكة لكنهمْ لوحظوا هنا بعنوان كونهم من جملة البشر ، فالمعنى : آية لهم أنا حملنا ذريات البشر في سفينة نوح وذلك حين أمر الله نوحاً بأن يحمل فيها أهله والذين آمنوا من قومه لبقاء ذريات البشر فكان ذلك حملاً لذرياتهم ما تسلسلت كما تقدم آنفاً .
هذا هو تأويل هذه الآية قال القرطبي : وهي من أشكل ما في السورة ، وقال ابن عطية : « قد خلط بعض الناس حتى قالوا : الذرية تطلق على الآباء وهذا لا يعرف من اللغة » وتقدم قوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم } في سورة الأعراف ( 172 ) . f
وقرأ نافع وابن عامر { ذرياتهم } بلفظ الجمع . وقرأه الباقون بدون ألف بصيغة اسم الجمع ، والمعنى واحد . وقد فهم من دلالة قوله : { أنَّا حَمَلْنَا ذُرِيَّاتَهُمْ } صريحاً وكناية أن هذه الآية مستمرة لكل ناظر إذ يشهدون أسفارهم وأسفار أمثالهم في البحر وخاصة سكان الشطوط والسواحل مثل أهل جُدة وأهل يُنْبُع إذ يسافرون إلى بلاد اليمن وبلاد الحبشة فيفهم منه : أنا حملنا ونحمل وسنحمل أسلافهم وأنفسهم وذرياتهم . وقد وصف طرفة السفن في معلّقته .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ودليل لهم أيضا، وعلامة على قُدرتنا على كلّ ما نشاء، "حملنا ذرّيتهم "يعني من نجا من ولد آدم في سفينة نوح، وإياها عنى جلّ ثناؤه بالفُلك المشحون، والفلك: هي السفينة، والمشحون: المملوء الموقر... عن ابن عباس، قوله: "في الفُلْكِ المَشْحُونِ" يعني: المثقل...
عن الحسن، في قوله: المَشْحُونَ قال: المحمول.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
اختلف في ذلك الفُلك:... قال بعضهم: أراد به السفن كلها التي يُحمّل عليها، ويركب، والفلك: يقال: هو واحد وجماعة.
فإن كان المراد بالفلك السفينة المشارة، وهي سفينة نوح كان قوله: {وخلقنا لهم من مثله ما يركبون} غيرها من السفن [التي اتُّخذت للركوب. وإن كان المراد به غيرها من السّفن] كان قوله: {وخلقنا لهم من مثله ما يركبون} إنما هي الأنعام التي يركبون عليها في المفاوز والبراري كقوله: {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون} [الزخرف: 12] ونحوه.
ويحتمل قوله: {حملنا ذريتهم} معنيين:
فإن كان المراد بقوله: {وآية لهم أنا حملنا} من أنتم من ذريتهم هذا ففائدته أنكم من ذرية من نجا منهم من آبائكم، وهم الذين آمنوا برسولهم، وصدّقوه، لا من كذّب به. فكيف لا اتبعتموهم؟ لأن العرب من عادتهم أنهم لا يزالون محتجّين: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} [الزخرف: 23].
وإن كان المراد المعنى الثاني فيقول: إن في آبائكم من قد صدّق الرسل وآمن بهم، ومنهم من كذّبهم. فكيف اتبعتم الذين كذّبوهم دون الذين صدّقوهم؟
ثم جهة الآية في الفلك ما ذكرنا في ما تقدم في غير موضع: إما في تذكير ما أنعم عليهم حين سخّر لهم ما في البحار والبراري حتى يصلوا إلى قضاء حوائجهم ومنافعهم في الأمكنة النائية البعيدة بالسفن التي أنشأها لهم والأنعام التي خلقها لهم.
وإما في ما يخبر عن قدرته وسلطانه أن من قدر على تسخير هذا وإيصال هذا بهذا، لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء.
وإما في ما يخبر عن وحدانيته وربوبيته، إذ لو كان ذلك فعل عدد لامتنع، ولم يتصل، ولم يصلوا إلى قضاء حوائجهم.
وإما في ما يخبر عن سفههم بعبادتهم الأصنام التي عبدوها حين قال: {وإن نشأ نُغرقهم فلا صريخ لهم} الآية، يخبر أنا لو شئنا إغراقهم لا تملك الأصنام التي يعبدونها الإغاثة والاستفادة من ذلك كقوله: {ضل من تدعون إلا إياه} [الإسراء: 67].
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
الحمل: منع الشيء أن يذهب إلى جهة السفل...
{وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون} ولها مناسبة مع ما تقدم من وجهين؛ أحدهما: أنه تعالى لما من بإحياء الأرض وهي مكان الحيوانات بين أنه لم يقتصر بل جعل للإنسان طريقا يتخذ من البحر خيرا ويتوسطه أو يسير فيه كما يسير في البر وهذا حينئذ كقوله: {وحملناهم في البر والبحر} ويؤيد هذا قوله تعالى: {وخلقنا لهم من مثله ما يركبون} إذا فسرناه بأن المراد الإبل فإنها كسفن البراري.
وثانيهما: هو أنه تعالى لما بين سباحة الكواكب في الأفلاك وذكر ما هو مثله وهو سباحة الفلك في البحار.
ولها وجه ثالث: وهي أن الأمور التي أنعم الله بها على عباده منها ضرورية ومنها نافعة والأول للحاجة، والثاني للزينة، فخلق الأرض وإحياؤها من القبيل الأول فإنها المكان الذي لولاه لما وجد الإنسان ولولا إحياؤها لما عاش والليل والنهار في قوله: {وآية لهم الليل} أيضا من القبيل الأول، لأنه الزمان الذي لولاه لما حدث الإنسان، والشمس والقمر وحركتهما لو لم تكن لما عاش.
ثم إنه تعالى لما ذكر من القبيل الأول آيتين ذكر من القبيل الثاني وهو الزينة آيتين؛ إحداهما: الفلك التي تجري في البحر فيستخرج من البحر ما يتزين به كما قال تعالى: {ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر} وثانيتهما: الدواب التي هي في البر كالفلك في البحر في قوله: {وخلقنا لهم من مثله ما يركبون} [يس: 42]
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
تخصيص الذرية لأنه أبلغ في الامتنان وأدخل في التعجب مع الإيجاز...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أطلق الحَمل على الإِنجاء من الغرق على وجه المجاز المرسل لعلاقة السببية والمسببية، أي أنجينا ذرياتهم من الغرق بحملهم في الفُلك حين الطوفان.
والذريات: جمع ذرية وهي نسل الإِنسان. و {الفلك المشحون}: هو المعهود بين البشر في قصة الطوفان، وهو هنا مفرد بقرينة وصفه بالمفرد وهو {المَشْحُونِ} ولم يقل: المشحونة كما قال: {وترى الفلك فيه مواخر} [فاطر: 12] وهو فلك نوح فقد اشتهر بهذا الوصف في القرآن كما في سورة الشعراء (119) {فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون} ولم يوصف غير فلك نوح بهذا الوصف.
وتعدية {حَمَلْنَا} إلى الذريات تعدية على المفعولية المجازية، وهو مجاز عقلي؛ فإن المجاز العقلي لا يختص بالإِسناد بل يكون المجاز في التعليق، فإن المحمول أصول الذريات لا الذريات وأصولها ملابسة لها.
ولما كانت ذريات المخاطبين مما أراد الله بقاءه في الأرض حين أمر نوحاً بصنع الفلك لإِنجاء الأنواع وأمره بحمل أزواج من الناس هم الذين تولد منهم البشر بعد الطوفان نُزّل البشر كله منزلة محمولين في الفلك المشحون في زمن نوح، وذكر الذريات يقتضي أن أصولهم محمولون بطريق الكناية إيجازاً في الكلام، وأن أنفسهم محمولون كذلك كأنه قيل: إنا حملنا أُصولهم وحملناهم وحملنا ذرياتهم، إذ لولا نجاة الأصول ما جاءت الذريّات، وكانت الحكمة في حمل الأصول بقاء الذريات فكانت النعمة شاملة للكل، وهذا كالامتنان في قوله: {إنّا لمّا طغى الماءُ حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة} [الحاقة: 11، 12].
وضمير {ذُرَّيَاتَهُم} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {لَهُمْ} أي العباد المراد بهم المشركون من أهل مكة لكنهمْ لوحظوا هنا بعنوان كونهم من جملة البشر، فالمعنى: آية لهم أنا حملنا ذريات البشر في سفينة نوح وذلك حين أمر الله نوحاً بأن يحمل فيها أهله والذين آمنوا من قومه لبقاء ذريات البشر فكان ذلك حملاً لذرياتهم ما تسلسلت كما تقدم آنفاً.
وقد فهم من دلالة قوله: {أنَّا حَمَلْنَا ذُرِيَّاتَهُمْ} صريحاً وكناية أن هذه الآية مستمرة لكل ناظر إذ يشهدون أسفارهم وأسفار أمثالهم في البحر، وخاصة سكان الشطوط والسواحل مثل أهل جُدة وأهل يُنْبُع إذ يسافرون إلى بلاد اليمن وبلاد الحبشة فيفهم منه: أنا حملنا ونحمل وسنحمل أسلافهم وأنفسهم وذرياتهم.
قوله تعالى {وَآيَةٌ لَّهُمْ} هي آية لنا ولهم، لنا على سبيل الاستدلال نستدل لهم بها لنقنعهم، ولهم هم أي: تدعوهم إلى الإيمان بالله...
ومعنى {الْفُلْكِ} السفن {الْمَشْحُونِ} المملوء. والمراد: سفينة سيدنا نوح -عليه السلام- وقد أوحى الله إليه أنْ يصنع السفينة، ودلَّه على كيفية صناعتها، كما قال سبحانه:
{فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا..} [المؤمنون: 27].
فالسفن في حَدِّ ذاتها من آيات الله، ولو لم يُوحِ الله إلى نوح أن يصنع السفينة، كيف كنا ننتقل في الماء، وهو ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، فهذه آية أجراها الله تعالى على يد سيدنا نوح، ليعلم الناسُ جميعاً صناعة السفن، ثم للعقول بعد ذلك أنْ تُطوِّرها وترقى بصناعتها، كما نرى الآن السفن العملاقة على أحدث ما يكون، حيث استبدلَ الإنسانُ قِلْع المركب بآلات البخار والكهرباء، وحَلِّ الحديد والمعادن محلَّ الخشب والمسامير.. الخ.
ومع هذا التطور، وبعد الاستغناء عن قوة الريح في تسيير السفن تظلّ السفن تسير بسم الله وبقدرته حتى إن استخدمت البخار أو الكهرباء؛ لأن الريح لا يعني الهواء الذي يُسيِّر السفن فحسب، إنما الريح تعني القوة أيّاً كانت؛ لذلك يقول سبحانه:
{وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ..} [الأنفال: 46].
ويقول سبحانه: {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ..} [الشورى: 33].
ويستوقفنا في هذه الآية قوله تعالى: {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} والآية تتحدث عن العرب الذين نزل القرآن مُخاطباً لهم، والذين حُمِلوا في السفينة هم آباؤهم لا ذريتهم، فكيف ذلك؟
قال القرآن: {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} والمراد: آباؤهم؛ لأن الذرية تُطلق أيضاً على الأب؛ لأن الذراري منه، أو لأن الآباء الذين نجوا في السفينة هم الأصل الأصيل للموجودين الذين يخاطبهم القرآن، وكانوا هم مطمورين في آبائهم.
لذلك سبق أنْ قُلْنا: إن كل واحد منا إلى أنْ تقوم الساعة فيه جزىء حَيٌّ من أبيه آدم لم يطرأ عليه الموت، ولو تتبعتَ الآباء وسلسلْتَ هذه السلسلة لقُلْتَ إنني من ميكروب حيٍّ جاء من أبي، وأبي من ميكروب حَيٍّ جاء من أبيه، وهكذا إلى آدم عليه السلام، ولو كان هذا الميكروب ميتاً ما جئت.
إذن: ففي كل مِنَّا ذرة تكوينية من أبيه آدم لم يطرأ عليها تغيير، وهذه الذرة هي التى تحمل الفطرة الإيمانية في كل إنسان.
ووصف الحق سبحانه الفُلْكَ بأنه مشحون. يعني: مملوء؛ لأن سيدنا نوحاً لم يأخذ فيها المؤمنين ليُنجيهم من الغرق فحسب، إنما ليُوفِّر لهم سُبُل العيش بعد النجاة، وإلا فكيف يعيش الناسُ على أرض لا يوجد فيها غيرهم، لا نبات ولا حيوان ولا طيور؟
لذلك قال سبحانه مخاطباً نبيه نوحاً: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ..} [هود: 40].