السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَءَايَةٞ لَّهُمۡ أَنَّا حَمَلۡنَا ذُرِّيَّتَهُمۡ فِي ٱلۡفُلۡكِ ٱلۡمَشۡحُونِ} (41)

ولما ذكر سبحانه وتعالى ما حد له حدوداً في السباحة في وجه الفلك ذكر ما هيأ به من الفلك للسباحة على وجه الماء بقوله تعالى : { وآية لهم } أي : على قدرتنا التامة { أنا } أي : على ما لنا من العظمة { حملنا ذريتهم } أي : آباءهم الأصول ، قال البغوي : واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد والألف واللام في قوله تعالى { في الفلك } للتعريف أي : فلك نوح عليه الصلاة والسلام وهو مذكور في قوله تعالى { واصنع الفلك بأعيننا } ( هود : 37 ) وهو معلوم عند العرب ثم وصف الفلك بقوله تعالى : { المشحون } أي : الموقر المملوء حيواناً وناساً وهو يتقلب في تلك المياه التي لم ير أحد قط مثلها ولا يرى أيضاً ومع ذلك فسلمها الله تعالى ، وأيضاً الآدمي يرسب في الماء ويغرق فحمله في الفلك وقع بقدرته تعالى لكن من الطبيعيين من يقول : الخفيف لا يرسب ؛ لأنه يطلب جهة فوق فقال { الفلك المشحون } أثقل من الثقال التي ترسب ومع هذا حمل الله الإنسان فيه مع ثقله .

وقال أكثر المفسرين : إن الذرية لا تطلق إلا على الولد وعلى هذا فالمراد : إما أن يكون الفلك المعين الذي كان لنوح عليه الصلاة والسلام وإما أن يكون المراد الجنس كقوله تعالى { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون } ( الزخرف : 12 ) وقوله تعالى { وترى الفلك فيه مواخر } ( فاطر : 12 ) وقوله تعالى { فإذا ركبوا في الفلك } ( العنكبوت : 65 ) إلى غير ذلك من استعمال لام التعريف في الفلك لبيان الجنس ، فإن كان المراد : سفينة نوح عليه السلام ففيه وجوه .

الأول : أن المراد حملنا أولادهم إلى يوم القيامة في ذلك الفلك ولولا ذلك ما بقي للأب نسل ولا عقب وعلى هذا فقوله تعالى { حملنا ذريتهم } إشارة إلى كمال النعمة أي : لم تكن النعمة مقتصرة عليكم بل متعدية إلى أعقابكم إلى يوم القيامة وهذا قول الزمخشري قال ابن عادل : ويحتمل أن يقال : إنه تعالى إنما خص الذرية بالذكر ؛ لأن الموجودين كانوا كفاراً لا فائدة في وجودهم فقال تعالى { حملنا ذريتهم } أي : لم يكن الحمل حملاً لهم وإنما كان حملاً لما في أصلابهم من المؤمنين كمن حمل صندوقاً لا قيمة له وفيه جواهر قيل : إنه لم يحمل الصندوق وإنما حمل ما فيه .

ثانيها : أن المراد بالذرية الجنس أي : حملنا أجناسهم ؛ لأن ذلك الحيوان من جنسه ونوعه والذرية تطلق على الجنس ولذلك تطلق على النساء لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الذراري أي : النساء لأن المرأة ، وإن كانت صنفاً غير صنف الرجل لكنها من جنسه ونوعه يقال : ذرارينا أي : أمثالنا .

ثالثها : أن الضمير في قوله تعالى { وآية لهم الليل } للعباد وكذا { وآية لهم أنا حملنا ذريتهم } وإذا علم هذا فكأنه تعالى قال : وآية للعبادة أنا حملنا ذرية العباد ولا يلزم أن يكون المراد بالضمير في الموضعين أشخاصاً معينين كقوله تعالى { ولا تقتلوا أنفسكم } ( النساء : 29 ) { ويُذيق بعضكم بأس بعض } و ( الأنعام : 65 ) لذلك إذا تقاتل قوم ومات الكل في القتال فقال هؤلاء القوم : هم قتلوا أنفسهم فهم في الموضعين يكون عائداً إلى القوم ولا يكون المراد أشخاصاً معينين بل المراد أن بعضهم قتل بعضهم فكذلك قوله تعالى { وآية لهم } أي : آية لكل بعض منهم أنا حملنا ذرية كل بعض منهم أو ذرية بعض منهم وإن قلنا المراد : جنس الفلك قال ابن عادل : وهو الأظهر ؛ لأن سفينة نوح عليه السلام لم تكن بحضرتهم ولم يعلموا من حمل فيها فأما جنس الفلك فإنه ظاهر لكل أحد .

وقوله تعالى في سفينة نوح عليه السلام { وجعلناها آية للعالمين } ( العنكبوت : 15 )

أي : بوجود جنسها ومثلها ويؤيده قوله تعالى { ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } ( لقمان : 31 ) ، فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى { وآية لهم الأرض الميتة } { وآية لهم الليل } ولم يقل : وآية لهم الفلك ؟ أجيب : بأن حملهم في الفلك هو العجب أما نفس الفلك فليس بعجيب ؛ لأنه كبيت مبني من خشب وأما نفس الأرض فعجيب ونفس الليل فعجيب لا قدرة لأحد عليهما إلا الله .

فإن قيل : قال تعالى { وحملناكم في البر والبحر } ( الإسراء : 70 ) ولم يقل : ذريتكم مع أن المقصود في الموضعين بيان النعمة لا دفع النقمة . أجيب : بأنه تعالى لما قال { في البر والبحر } عم الخلق جميعاً ؛ لأن ما من أحد إلا وحمل في البر والبحر ، وأما الحمل في البحر فلم يعم فقال : إن كنا ما حملناكم بأنفسكم فقد حملنا من يهمكم أمره من الأولاد والأقارب والإخوان والأصدقاء ، وقرأ نافع وابن عامر بألف بعد الياء التحتية وكسر الفوقانية على الجمع ، والباقون بغير ألف وفتح الفوقانية على الإفراد .