مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَءَايَةٞ لَّهُمۡ أَنَّا حَمَلۡنَا ذُرِّيَّتَهُمۡ فِي ٱلۡفُلۡكِ ٱلۡمَشۡحُونِ} (41)

وقوله تعالى : { وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون } ولها مناسبة مع ما تقدم من وجهين أحدهما : أنه تعالى لما من بإحياء الأرض وهي مكان الحيوانات بين أنه لم يقتصر بل جعل للإنسان طريقا يتخذ من البحر خيرا ويتوسطه أو يسير فيه كما يسير في البر وهذا حينئذ كقوله : { وحملناهم في البر والبحر } ويؤيد هذا قوله تعالى : { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } إذا فسرناه بأن المراد الإبل فإنها كسفن البراري وثانيهما : هو أنه تعالى لما بين سباحة الكواكب في الأفلاك وذكر ما هو مثله وهو سباحة الفلك في البحار ، ولها وجه ثالث : وهي أن الأمور التي أنعم الله بها على عباده منها ضرورية ومنها نافعة والأول للحاجة والثاني للزينة فخلق الأرض وإحياؤها من القبيل الأول فإنها المكان الذي لولاه لما وجد الإنسان ولولا إحياؤها لما عاش والليل والنهار في قوله : { وآية لهم الليل } أيضا من القبيل الأول ، لأنه الزمان الذي لولاه لما حدث الإنسان ، والشمس والقمر وحركتهما لو لم تكن لما عاش ، ثم إنه تعالى لما ذكر من القبيل الأول آيتين ذكر من القبيل الثاني وهو الزينة آيتين إحداهما : الفلك التي تجري في البحر فيستخرج من البحر ما يتزين به كما قال تعالى : { ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر } وثانيتهما : الدواب التي هي في البر كالفلك في البحر في قوله : { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } [ يس : 42 ] فإن الدواب زينة كما قال تعالى : { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة } [ النحل : 8 ] وقال : { ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون } فيكون استدلالا عليهم بالضروري والنافع لا يقال بأن النافع ذكره في قوله : { جنات من نخيل وأعناب } فإنها للزينة لأنا نقول ذلك حصل تبعا للضروري ، لأن الله تعالى لما خلق الأرض منبتة لدفع الضرورة وأنزل الماء عليها كذلك لزم أن يخرج من الجنة النخيل والأعناب بقدرة الله ، وأما الفلك فمقصود لا تبع ، ثم إذا علمت المناسبة ففي الآيات أبحاث لغوية ومعنوية :

أما اللغوية : قال المفسرون الذرية هم الآباء أي حملنا آباءكم في الفلك والألف واللام للتعريف أي فلك نوح وهو مذكور في قوله : { واصنع الفلك } ومعلوم عند العرب فقال الفلك ، هذا قول بعضهم ، وأما الأكثرون فعلى أن الذرية لا تطلق إلا على الولد وعلى هذا فلا بد من بيان المعنى ، فنقول الفلك إما أن يكون المراد الفلك المعين الذي كان لنوح ، وإما أن يكون المراد الجنس كما قال تعالى : { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون } وقال تعالى : { وترى الفلك فيه مواخر } وقال تعالى : { فإذا ركبوا في الفلك } إلى غير ذلك من استعمال لام التعريف في الفلك لبيان الجنس ، فإن كان المراد سفينة نوح عليه السلام ففيه وجوه الأول : أن المراد إنا حملنا أولادكم إلى يوم القيامة في ذلك الفلك ، ولولا ذلك لما بقي للآدمي نسل ولا عقب وعلى هذا فقوله : { حملنا ذريتهم } بدل قوله : حملناهم إشارة إلى كمال النعمة أي لم تكن النعمة مقتصرة عليكم بل متعدية إلى أعقابكم إلى يوم القيامة ، هذا ما قاله الزمخشري ، ويحتمل عندي أن يقال على هذا إنه تعالى إنما خص الذرية بالذكر ، لأن الموجودين كانوا كفارا لا فائدة في وجودهم فقال : { حملنا ذريتهم } أي لم يكن الحمل حملا لهم ، وإنما كان حملا لما في أصلابهم من المؤمنين كما أن من حمل صندوقا لا قيمة له وفيه جواهر إذا قيل له لم تحمل هذا الصندوق وتتعب في حمله وهو لا يشتري بشيء ؟ يقول : لا أحمل الصندوق وإنما أحمل ما فيه الثاني : هو أن المراد بالذرية الجنس معناه حملنا أجناسهم وذلك لأن ولد الحيوان من جنسه ونوعه والذرية تطلق على الجنس ولهذا يطلق على النساء نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الذراري ، أي النساء وذلك لأن المرأة وإن كانت صنفا غير صنف الرجل لكنها من جنسه ونوعه يقال ذرارينا أي أمثالنا فقوله : { أنا حملنا ذريتهم } أي أمثالهم وآباؤهم حينئذ تدخل فيهم الثالث : هو أن الضمير في قوله : { وآية لهم } عائد إلى العباد حيث قال :

{ يا حسرة على العباد } وقال بعد ذلك : { وآية لهم الأرض } وقال : { وآية لهم الليل } { وآية لهم أنا حملنا ذريتهم } إذا علم هذا فكأنه تعالى قال : وآية للعباد أنا حملنا ذريات العباد ولا يلزم أن يكون المراد بالضمير في الموضعين أشخاصا معينين كما قال تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } ويريد بعضكم بعضا ، وكذلك إذا تقاتل قوم ومات الكل في القتال ، يقال هؤلاء القوم هم قتلوا أنفسهم ، فهم في الموضعين يكون عائدا إلى القوم ولا يكون المراد أشخاصا معينين ، بل المراد أن بعضهم قتل بعضا ، فكذلك قوله تعالى : { وآية لهم } أي آية لكل بعض منهم أنا حملنا ذرية كل بعض منهم ، أو ذرية بعض منهم . وأما إن قلنا إن المراد جنس الفلك فهو أظهر ، لأن سفينة نوح لم تكن بحضرتهم ولم يعلموا من حمل فيها ، فأما جنس الفلك فإنه ظاهر لكل أحد ، وقوله تعالى في سفينة نوح : { وجعلناها آية للعالمين } أي بوجود جنسها ومثلها ، ويؤيده قوله تعالى : { ألم تر أن الفلك تجرى في البحر بنعمت الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } فنقول قوله تعالى : { حملنا ذريتهم } أي ذريات العباد ولم يقل حملناهم ، لأن سكون الأرض عام لكل أحد يسكنها فقال : { وآية لهم الأرض الميتة } إلى أن قال : { فمنه يأكلون } لأن الأكل عام ، وأما الحمل في السفينة فمن الناس من لا يركبها في عمره ولا يحمل فيها ، ولكن ذرية العباد لا بد لهم من ذلك فإن فيهم من يحتاج إليها فيحمل فيها .

المسألة الثانية : جعل الفلك تارة جمعا حيث قال : { وترى الفلك فيه مواخر } جمع ماخرة وأخرى فردا حيث قال : { في الفلك المشحون } نقول فيه تدقيق مليح من علم اللغة ، وهو أن الكلمة قد تكون حركتها مثل حركة تلك الكلمة في الصورة ، والحركتان مختلفتان في المعنى مثالها قولك : سجد يسجد سجودا للمصدر وهم قوم سجود في جمع ساجد ، تظن أنهما كلمة واحدة لمعنيين وليس كذلك ، بل السجود عند كونه مصدرا حركته أصلية إذا قلنا إن الفعل مشتق من المصدر وحركة السجود عند كونه للجمع حركة متغيرة من حيث إن الجمع يشتق من الواحد ، وينبغي أن يلحق المشتق تغيير في حركة أو حرف أو في مجموعهما ، فساجد لما أردنا أن يشتق منه لفظ جمع غيرناه ، وجئناه بلفظ السجود ، فإذا السجود للمصدر والجمع ليس من قبيل الألفاظ المشتركة التي وضعت بحركة واحدة لمعنيين ، إذا عرفت هذا فنقول الفلك عند كونه واحدا مثل قفل وبرد ، وعند كونها جمعا مثل خشب ومرد وغيرهما ، فإن قلت فإذا جعلته جمعا ماذا يكون واحدها ؟ نقول جاز أن يكون واحدها فلكة أو غيرها مما لم يستعمل كواحد النساء حيث لم يستعمل ، وكذا القول في : { إمام مبين } وفي قوله : { ندعوا كل أناس بإمامهم } أي بأئمتهم عند قوله تعالى : { إمام مبين } إما كزمام وكتاب وعند قوله تعالى : { كل أناس بإمامهم } إمام كسهام وكرام وجعاب وهذا من دقيق التصريف وأما المعنوية : فنذكرها في مسائل :

المسألة الأولى : قال ههنا : { حملنا ذريتهم } من عليهم بحمل ذريتهم ، وقال تعالى : { إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية } من هناك عليهم بحمل أنفسهم ، نقول لأن من ينفع المتعلق بالغير يكون قد نفع ذلك الغير ، ومن يدفع الضرر على المتعلق بالغير لا يكون قد دفع الضرر عن ذلك الغير ، بل يكون قد نفعه مثاله من أحسن إلى ولد إنسان وفرحه فرح بفرحه أبوه ، وإذا دفع واحد الألم عن ولد إنسان يكون قد فرح أباه ولا يكون في الحقيقة قد أزال الألم عن أبيه ، فعند طغيان الماء كان الضرر يلحقهم فقال دفعت عنكم الضرر ، ولو قال دفعت عن أولادكم الضرر لما حصل بيان دفع الضرر عنهم ، وههنا أراد بيان المنافع فقال : { حملنا ذريتهم } لأن النفع حاصل بنفع الذرية ويدلك على هذا أن ههنا قال : { في الفلك المشحون } فإن امتلاء الفلك من الأموال يحصل بذكره بيان المنفعة ، وأما دفع المضرة فلا ، لأن الفلك كلما كان أثقل كان الخلاص به أبطأ وهنالك السلامة ، فاختار هنالك ما يدل على الخلاص من الضرر وهو الجري ، وههنا ما يدل على كمال المنفعة وهو الشحن ، فإن قيل قال تعالى :

{ وحملناهم في البر والبحر } ولم يقل : وحملنا ذريتهم مع أن المقصود في الموضعين بيان النعمة ، لا دفع النقمة ، نقول لما قال : { في البر والبحر } عم الخلق ، لأن ما من أحد إلا وحمل في البر أو البحر ، وأما الحمل في البحر فلم يعم ، فقال إن كنا ما حملناكم بأنفسكم فقد حملنا من يهمكم أمره من الأولاد والأقارب والإخوان والأصدقاء .

المسألة الثانية : قوله : { المشحون } يفيد فائدة أخرى غير ما ذكرنا وهي أن الآدمي يرسب في الماء ويغرق ، فحمله في الفلك واقع بقدرته ، لكن من الطبيعيين من يقول الخفيف لا يرسب في الماء ، لأن الخفيف يطلب جهة فوق فقال : { الفلك المشحون } أثقل من الثقال التي ترسب ، ومع هذا حمل الله الإنسان فيه مع ثقله ، فإن قالوا ذلك لامتناع الخلاء نقول قد ذكرنا الدلائل الدالة على جواز الخلاء في الكتب العقلية ، فإذن ليس حفظ الثقيل فوق الماء إلا بإرادة الله .

المسألة الثالثة : قال تعالى : { وآية لهم الأرض } وقال : { وآية لهم الليل } ولم يقل وآية لهم الفلك جعلناها بحيث تحملهم ، وذلك لأن حملهم في الفلك هو العجب . أما نفس الفلك فليس بعجب لأنه كبيت مبني من خشب . وأما نفس الأرض فعجب ونفس الليل عجب لا قدرة عليهما لأحد إلا الله .