معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذۡ قَالُواْ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَـٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥٓ إِلَّا قَوۡلَ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسۡتَغۡفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمۡلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۖ رَّبَّنَا عَلَيۡكَ تَوَكَّلۡنَا وَإِلَيۡكَ أَنَبۡنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} (4)

قوله تعالى : { قد كانت لكم أسوة } قدوة ، { حسنة في إبراهيم والذين معه } من أهل الإيمان { إذ قالوا لقومهم } من المشركين ، { إنا براء منكم } جمع بريء ، { ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم } جحدنا وأنكرنا دينكم ، { وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده } يأمر حاطباً والمؤمنين بالاقتداء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، والذين معه من المؤمنين في التبرؤ من المشركين ، { إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك } أي : لكم أسوة حسنة في إبراهيم وأموره إلا في استغفاره لأبيه المشرك ، فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان قد قال لأبيه : لأستغفرن لك ، ثم تبرأ منه -على ما ذكرناه في سورة التوبة- { وما أملك لك من الله من شيء } يقول إبراهيم عليه السلام لأبيه : ما أغنى عنك ولا أدفع عنك عذاب الله إن عصيته وأشركت به ، { ربنا عليك توكلنا } ، يقوله إبراهيم ومن معه من المؤمنين ، { وإليك أنبنا وإليك المصير } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذۡ قَالُواْ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَـٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥٓ إِلَّا قَوۡلَ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسۡتَغۡفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمۡلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۖ رَّبَّنَا عَلَيۡكَ تَوَكَّلۡنَا وَإِلَيۡكَ أَنَبۡنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} (4)

قد كانت لكم يا معشر المؤمنين { أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } أي : قدوة صالحة وائتمام ينفعكم ، { فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } من المؤمنين ، لأنكم قد أمرتم أن تتبعوا ملة إبراهيم حنيفا ، { إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي : إذ تبرأ إبراهيم عليه السلام ومن معه من المؤمنين ، من قومهم المشركين ومما يعبدون من دون الله .

ثم صرحوا بعداوتهم غاية التصريح ، فقالوا : { كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا } أي : ظهر وبان ، { بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ } أي : البغض بالقلوب ، وزوال مودتها ، والعداوة بالأبدان ، وليس لتلك العداوة والبغضاء وقت ولا حد ، بل ذلك { أَبَدًا } ما دمتم مستمرين على كفركم { حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } أي : فإذا آمنتم بالله وحده ، زالت العداوة والبغضاء ، وانقلبت مودة وولاية ، فلكم أيها المؤمنون أسوة [ حسنة ] في إبراهيم ومن معه في القيام بالإيمان والتوحيد ، والقيام بلوازم ذلك ومقتضياته ، وفي كل شيء تعبدوا به لله وحده ، { إِلَّا } في خصلة واحدة وهي { قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ } آزر المشرك ، الكافر ، المعاند ، حين دعاه إلى الإيمان والتوحيد ، فامتنع ، فقال إبراهيم : { لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ و } الحال أني لا { أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } لكني أدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا ، فليس لكم أن تقتدوا بإبراهيم في هذه الحالة التي دعا بها للمشرك ، فليس لكم أن تدعوا للمشركين ، وتقولوا : إنا في ذلك متبعون لملة إبراهيم ، فإن الله ذكر عذر إبراهيم في ذلك بقوله : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إن إبراهيم لأواه حليم }

ولكم أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه ، حين دعوا الله وتوكلوا عليه وأنابوا إليه ، واعترفوا بالعجز والتقصير ، فقالوا : { رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا } أي : اعتمدنا عليك في جلب ما ينفعنا ودفع ما يضرنا ، ووثقنا بك يا ربنا في ذلك .

{ وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا } أي : رجعنا إلى طاعتك ومرضاتك وجميع ما يقرب إليك ، فنحن في ذلك ساعون ، وبفعل الخيرات مجتهدون ، ونعلم أنا إليك نصير ، فسنستعد للقدوم عليك ، ونعمل ما يقربنا الزلفى إليك{[1053]} .


[1053]:- في ب: ما يزلفنا إليك.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذۡ قَالُواْ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَـٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥٓ إِلَّا قَوۡلَ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسۡتَغۡفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمۡلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۖ رَّبَّنَا عَلَيۡكَ تَوَكَّلۡنَا وَإِلَيۡكَ أَنَبۡنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} (4)

ثم تأتي الجولة الثالثة فتصل المسلمين بأول هذه الأمة الواحدة : أمة التوحيد . وهذه القافلة الواحدة : قافلة الإيمان . فإذا هي ممتدة في الزمان ، متميزة بالإيمان ، متبرئة من كل وشيجة تنافي وشيجة العقيدة . . إنها الأمة الممتدة منذ إبراهيم . أبيهم الأول وصاحب الحنيفية الأولى . وفيه أسوة لا في العقيدة وحدها ، بل كذلك في السيرة ، وفي التجارب التي عاناها مع عاطفة القرابة ووشائجها ؛ ثم خلص منها هو ومن آمن معه ، وتجرد لعقيدته وحدها :

( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ؛ إذ قالوا لقومهم : إنا برآء منكم ، ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم ، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده . إلا قول إبراهيم لأبيه ، لأستغفرن لك ، وما أملك لك من الله من شيء . ربنا عليك توكلنا ، وإليك أنبنا ، وإليك المصير . ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا ، واغفر لنا ربنا ، إنك أنت العزيز الحكيم . . لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر . ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ) . .

وينظر المسلم فإذا له نسب عريق ، وماض طويل ، وأسوة ممتدة على آماد الزمان . وإذا هو راجع إلى إبراهيم ، لا في عقيدته فحسب ، بل في تجاربه التي عاناها كذلك . فيشعر أن له رصيدا من التجارب أكبر من رصيده الشخصي وأكبر من رصيد جيله الذي يعيش فيه . إن هذه القافلة الممتدة في شعاب الزمان من المؤمنين بدين الله ، الواقفين تحت راية الله ، قد مرت بمثل ما يمر به ، وقد انتهت في تجربتها إلى قرار اتخذته . فليس الأمر جديدا ولا مبتدعا ولا تكليفا يشق على المؤمنين . . ثم إن له لأمة طويلة عريضة يلتقي معها في العقيدة ويرجع إليها ، إذا انبتت الروابط بينه وبين أعداء عقيدته . فهو فرع من شجرة ضخمة باسقة عميقة الجذور كثيرة الفروع وارفة الظلال . . الشجرة التي غرسها أول المسلمين . . إبراهيم . .

مر إبراهيم والذين معه بالتجربة التي يعانيها المسلمون المهاجرون . وفيهم أسوة حسنة : ( إذ قالوا لقومهم : إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم ، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ) . .

فهي البراءة من القوم ومعبوداتهم وعباداتهم . وهو الكفر بهم والإيمان بالله . وهي العداوة والبغضاء لا تنقطع حتى يؤمن القوم بالله وحده . وهي المفاصلة الحاسمة الجازمة التي لا تستبقي شيئا من الوشائج والأواصر بعد انقطاع وشيجة العقيدة وآصرة الإيمان . وفي هذا فصل الخطاب في مثل هذه التجربة التي يمر بها المؤمن في أي جيل . وفي قرار إبراهيم والذين معه أسوة لخلفائهم من المسلمين إلى يوم الدين .

ولقد كان بعض المسلمين يجد في استغفار إبراهيم لأبيه - وهو مشرك - ثغرة تنفذ منها عواطفهم الحبيسة ومشاعرهم الموصولة بذوي قرباهم من المشركين . فجاء القرآن ليشرح لهم حقيقة موقف إبراهيم في قوله لأبيه : ( لأستغفرن لك ) . .

فلقد قال هذا قبل أن يستيقن من إصرار أبيه على الشرك . قاله وهو يرجو إيمانه ويتوقعه : ( فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ) . . كما جاء في سورة أخرى .

ويثبت هنا أن إبراهيم فوض الأمر كله لله ، وتوجه إليه بالتوكل والإنابة والرجوع إليه على كل حال :

( وما أملك لك من الله من شيء . ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ) . .

وهذا التسليم المطلق لله ، هو السمة الإيمانية الواضحة في إبراهيم يبرزها هنا ليوجه إليها قلوب أبنائه المسلمين . كحلقة من حلقات التربية والتوجيه بالقصص والتعقيب عليه ، وإبراز ما في ثناياه من ملامح وسمات وتوجيهات على طريقة القرآن الكريم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذۡ قَالُواْ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَـٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥٓ إِلَّا قَوۡلَ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسۡتَغۡفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمۡلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۖ رَّبَّنَا عَلَيۡكَ تَوَكَّلۡنَا وَإِلَيۡكَ أَنَبۡنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} (4)

يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } أي : وأتباعه الذين آمنوا معه { إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ } أي : تبرأنا منكم { وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ } أي : بدينكم وطريقكم ، { وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا } يعني : وقد شُرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم ، ما دمتم على كفركم فنحن أبدًا نتبرأ منكم ونبغضكم { حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } أي : إلى أن تُوحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له ، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأنداد والأوثان .

وقوله : { إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } أي : لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة تتأسون بها ، إلا في استغفار إبراهيم لأبيه ، فإنه إنما كان عن مَوعِدة وعدها إياه ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه . وذلك أن بعض المؤمنين كانوا يَدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك ويستغفرون لهم ، ويقولون : إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه ، فأنزل الله ، عز وجل : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } [ التوبة : 113 ، 114 ] . وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } إلى قوله : { إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } أي : ليس لكم في ذلك أسوة ، أي : في الاستغفار للمشركين ، هكذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقاتل ، والضحاك وغير واحد .

ثم قال تعالى مخبرًا عن قول إبراهيم والذين معه ، حين فارقوا قومهم وتبرءوا منهم ، فلجئوا إلى الله وتضرّعوا{[28664]} إليه فقالوا : { رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } أي : توكلنا عليك في جميع الأمور ، وسَلَّمنا أمورَنا إليك ، وفوضناها إليك { وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } أي : المعاد في الدار الآخرة .


[28664]:- (1) في م: "وضرعوا".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذۡ قَالُواْ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَـٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥٓ إِلَّا قَوۡلَ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسۡتَغۡفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمۡلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۖ رَّبَّنَا عَلَيۡكَ تَوَكَّلۡنَا وَإِلَيۡكَ أَنَبۡنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} (4)

{ قد كانت لكم أسوة حسنة }قدوة اسم لما يؤتسى به ، { في إبراهيم والذين معه }صفة ثانية أو خبر كان و لكم لغوا أو حال من المستكن في حسنة أو صلة لها لا ل أسوة لأنها وصفت { إذ قالوا لقومهم }ظرف لخبر كان { إنا برآء منكم }جميع بريء كظريف وظرفاء ، { ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم }أي بدينكم أو بمعبودكم أو بكم وبه فلا نعتد بشأنكم وآلهتكم ، { وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده }فتنقلب العداوة والبغضاء ألفة ومحبة ، { إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك } استثناء من قوله { أسوة حسنة } فإن استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه الكافر ليس مما ينبغي أن يأتسوا به فإنه كان قبل النهي أو لموعدة وعدها إياه ، { وما أملك لك من الله من شيء }من تمام قوله المستثنى ولا يلزم من استثناء المجموع استثناء جميع أجزائه ، { ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير } متصل بما قبل الاستثناء أو أمر من الله للمؤمنين بأن يقولوه تتميما لما وصاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذۡ قَالُواْ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَـٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥٓ إِلَّا قَوۡلَ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسۡتَغۡفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمۡلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۖ رَّبَّنَا عَلَيۡكَ تَوَكَّلۡنَا وَإِلَيۡكَ أَنَبۡنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} (4)

وقرأ جمهور السبعة : «إسوة » بكسر الهمزة ، وقرأ عاصم وحده : «أسوة » بضمها وهما لغتان ، والمعنى : قدوة وإمام ومثال ، و { إبراهيم } هو خليل الرحمن ، واختلف الناس في { الذين معه } ، فقال قوم من المتأولين أراد من آمن به من الناس ، وقال الطبري وغيره : أراد الأنبياء الذين كانوا في عصره وقريباً من عصره ، وهذا القول أرجح لأنه لم يُروَ أن إبراهيم كان له أتباع مؤمنون في مكافحته نمروداً ، وفي البخاري أنه قال لسارة حين رحل بها إلى الشام مهاجراً من بلد النمرود : ما على الأرض من يعبد الله غيري وغيرك ، وهذه الأسوى مقيدة في التبري عن الإشراك وهو مطرد في كل ملة ، وفي نبينا عليه السلام أسوة حسنة على الإطلاق لأنها في العقائد وفي أحكام الشرع كلها ، وقرأ جمهور الناس «برءاء » على وزن فعلاء الهمزة الأولى لام الفعل ، وقرأ عيسى الثقفي : «بِراء » ، على وزن فِعال ، بكسر الباء ككريم وكرام ، وقرأ يزيد بن القعقاع : «بُراء » على وزن فُعال ، بضم الفاء كنوام ، وقد رويت عن عيسى قراءة ، قال أبو حاتم : زعموا أنه عيسى الهمداني ويجوز : «بَراء » على المصدر بفتح الباء يوصف به الجمع والإفراد{[11044]} . وقوله : { كفرنا بكم } أي كذبناكم في أقوالكم ولم نؤمن بشيء منها ، ونظير هذا قوله عليه السلام حكاية عن قول الله عز وجل : ( فهو مؤمن بي كافر بالكوكب ){[11045]} ولم تلحق العلامة في : { بدا }{[11046]} لأن تأنيث { العداوة والبغضاء } غير حقيقي ، ثم استثنى تعالى استغفار إبراهيم لأبيه ، وذكر أنه كان عن موعدة وقد تفسر ذلك في موضعه ، وهذا استثناء ليس من الأول ، والمعنى عند مجاهد وقتادة وعطاء الخراساني وغيرهم : أن الأسوة لكم في هذا الوجه ، لا في هذا الآخر لأنه كان في علة ليست في نازلتكم ، ويحتمل أن يكون استثناء من التبري والقطيعة التي ذكرت أي لم تبق صلة إلا كذا ، وقوله تعالى : { ربنا عليك توكلنا } الآية ، حكاية عن قول إبراهيم والذين معه إنه هكذا كان .


[11044]:يريد أن يقول: قال أبو حاتم: زعموا أن عيسى الهمداني قرأ:[براء] على المصدر بفتح الباء، ويجوز أن يكون كلام أبي حاتم صحيحا.
[11045]:هذا جزء من حديث رواه مسلم في الإيمان، والبخاري في الأذان والاستسقاء والمغازي والتوحيد، وأبو داود في الطب، ومالك في باب الاستسقاء من الموطإ، ولفظه كما في صحيح مسلم عن زبير بن خالد الجُهني: قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في إثر السماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب.
[11046]:في أكثر النسخ: ولم تُلحقالعلامة في [بُرءاء]، وهو خطأ من النساخ. والمراد أن العلامة التأنيث لم تلحق بالفعل[بدا] لأن التأنيث في "العداوة والبغضاء مجازي.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذۡ قَالُواْ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَـٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥٓ إِلَّا قَوۡلَ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسۡتَغۡفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمۡلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۖ رَّبَّنَا عَلَيۡكَ تَوَكَّلۡنَا وَإِلَيۡكَ أَنَبۡنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} (4)

{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فى إبراهيم والذين مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا برءاؤ منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا وبيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده } .

صدر هذه الآية يفيد تأكيداً لمضمون جملة { إن يثقفوكم } [ الممتحنة : 2 ] وجملة { لن تنفعكم أرحامكم } [ الممتحنة : 3 ] ، لأنها بما تضمنته من أن الموجه إليهم التوبيخ خالفوا الأسوةَ الحسنة تقوي إثبات الخطأ المستوجب للتوبيخ .

ذلك أنه بعد الفراغ من بيان خطأ من يوالي عدوَّ الله بما يجرّ إلى أصحابه من مضارّ في الدنيا وفي الآخرة تحذيراً لهم من ذلك ، انتقل إلى تمثيل الحالة الصالحة بمثال من فعل أهل الإِيمان الصادق والاستقامة القويمة وناهيك بها أسوة .

وافتتاح الكلام بكلمتي { قد كانت } لتأكيد الخبر ، فإن { قد } مع فعل الكون يراد بهما التعريض بالإِنكار على المخاطب ولومه في الإِعراض عن العمل بما تضمنه الخبر كقول عُمر لابن عباس يوم طَعَنه غلامُ المغيرة : « قد كنتَ أنتَ وأبوك تُحبان أن يكثر هؤلاء الأعلاجُ بالمدينة » ، ومنه قوله تعالى : { لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك } [ ق : 22 ] توبيخاً على ما كان منهم في الدنيا من إنكار للبعث ، وقوله تعالى : { وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } [ القلم : 43 ] وقوله : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } [ الأحزاب : 21 ] .

ويتعلق { لكم } بفعل « كان » ، أو هو ظرف مستَقِرّ وقع موقع الحال من { أسوة حسنة } .

وإبراهيم عليه السلام مَثَل في اليقين بالله والغضب به ، عَرف ذلك العرب واليهود والنصارى من الأمم ، وشاع بين الأمم المجاورة من الكنعانيين والأَراميين ، ولعله بلغ إلى الهند . وقد قيل : إن اسم ( بَرهما ) معبودِ البراهة من الهنود مُحرف عن ( اسم إبراهيم ) وهو احتمال .

وعُطف { والذين معه } ليتم التمثيل لحال المسلمين مع رسولهم صلى الله عليه وسلم بحال إبراهيم عليه السلام والذين معه ، أي أن يكون المسلمون تابعين لرضى رسولهم صلى الله عليه وسلم كما كان الذين مع إبراهيم عليه السلام .

والمراد ب { الذين معه } الذين آمنوا به واتبعوا هديه وهم زوجه سَارَةُ وابن أخيه لوطٌ ولم يكن لإِبراهيم أبناء ، فضمير { إذ قالوا } عائد إلى إبراهيم والذين معه فهم ثلاثة .

و { إذْ } ظرف زمان بمعنى حينَ ، أي الأسوة فيه وفيهم في ذلك الزمن .

والمراد بالزمن : الأحوال الكائنة فيه ، وهو ما تبينه الجملة المضاف إليها الظرف وهي جملة { قالوا لقومهم إنا برءآء منكم } الخ .

والإِسوة بكسر الهمزة وضمها : القُدوة التي يقتدَى بها في فعل ما . فوصفت في الآية ب { حسنة } وصفاً للمدح لأن كونها حسنة قد علم من سياق ما قبله وما بعده .

وقرأ الجمهور { إسوة } بكسر الهمزة ، وقرأه عاصم بضمها . وتقدمت في قوله تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } في سورة [ الأحزاب : 21 ] .

وحرف { في } مستعار لقوة الملابسة إذ جعل تلبس إبراهيم والذين معه بكونهم أسوة حسنة ، بمنزلة تلبس الظرف بالمظروف في شدة التمكن من الوصف .

ولذلك كان المعنى : قد كانَ لكم إبراهيمُ والذين معه أسوةً في حين قولهم لقومهم . فليس قوله : { إسوة حسنة في إبراهيم } من قبيل التجريد مثل قول أبي خالد العتابي .

وفي الرَّحمان للضعفاء كاف{[415]}

لأن الأسوة هنا هي قول إبراهيم والذين معه لا أنفسهم .

و { برءآء } بهمزتين بوزن فُعَلاء جَمْع بريء مثل كَريم وكُرماء .

وبريء فعيل بمعنى فاعل من بَرِىء من شيء إذا خَلاَ منه سواءً بعد ملابسته أو بدون ملابسة .

والمراد هنا التبرؤ من مخالطتهم وملابستهم . . وعطف عليه { ومما تعبدون من دون الله } أي من الأصنام التي تعبدونها من دون الله والمراد بُرَءآء من عبادتها .

وجملة { كفرنا بكم } وما عطف عليها بيان لمعنى جملة { إنا برءآء } .

وضمير { بكم } عائد إلى مجموع المخاطبين من قومهم مع ما يعبدونه من دون الله ، ويفسَّر الكفرُ بما يناسب المعطوف عليه والمعطوف ، أي كفرنا بجميعكم فكفرهم بالقوم غير كفرهم بما يعبده قومهم .

وعُطف عليه { وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً } وبدا معناه : ظهر ونشأ ، أي أحدثنا معكم العداوة ظاهرةً لا مواربة فيها ، أي ليست عداوة في القلب خاصة بل هي عداوة واضحة علانية بالقول والقلب . وهو أقصى ما يستطيعه أمثالهم من درجات تغيير المنكر وهو التغيير باللسان إذ ليسوا بمستطيعين تغيير ما عليه قومهم باليَد لقلتهم وضعفهم بين قومهم .

و { العداوة } المعاملة بالسوء والاعتداءِ .

و { البغضاء } : نفرة النفس ، والكراهيةُ وقد تطلق إحداهما في موضع الأخرى إذا افترقتا ، فذِكرهما معاً هنا مقصود به حصول الحالتين في أنفسهم : حالة المعاملة بالعدوان ، وحالة النفرة والكراهية ، أي نُسِيءُ معاملتكم ونُضمر لكم الكراهية حتى تؤمنوا بالله وحده دون إشراك .

والمراد بقولهم هذا لقومهم أنهم قالوه مقال الصادق في قوله ، فالائتساء بهم في ذلك القول والعمل بما يترجم عليه القول مما في النفوس ، فالمؤتَسَى به أنهم كاشفوا قومهم بالمنافرة ، وصرحوا لهم بالبغضاء لأجل كفرهم بالله ولم يصانعوهم ويغضُّوا عن كفرهم لاكتساب مودتهم كما فعل الموبخ بهذه الآية .

{ إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لاَِبِيهِ لاََسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شيء } .

الأظهر أن هذه الجملة معترضة بين جمل حكاية مقال إبراهيم والذين معه وجملة { لقد كان لكم فيهم إسوة حسنة } [ الممتحنة : 6 ] ، والاستثناء منقطع إذ ليس هذا القول من جنس قولهم : { إنا برءآء منكم } الخ ، فإن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك رفقٌ بأبيه وهو يغاير التبرُّؤ منه ، فكان الاستثناء في معنى الاستدراك عن قوله : { إذ قالوا لقومهم إنا برءآء منكم } الشامل لمقالة إبراهيم معهم لاختلاف جنسي القولين .

قال في « الكشاف » في قوله تعالى : { قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط } في سورة [ الحجر : 58 ، 59 ] . أنه استثناء منقطع من قوم } لأن القوم موصوفون بالإِجرام فاختلَف لذلك الجنسان اهـ .

فجعل اختلاف جنسي المستثنى والمستثنى منه موجباً اعتبار الاستثناء منقطعاً . وفائدة الاستدراك هنا التعريض بخطأ حاطب ابن أبي بلتعة ، أي إن كنتم معتذرين فليكن عذركم في مواصلة أعداء الله بأن تَوَدُّوا لهم مغفرةَ كفرهم باستدعاء سبب المغفرة وهو أن يهديهم الله إلى الدين الحق كما قال إبراهيم لأبيه { لأستغفرن لك } ، ولا يكون ذلك بمصانعة لا يفهمون منها أنهم منكم بمحلّ المودة والعناية فيزدادوا تعنتاً في كفرهم .

وحكاية قول إبراهيم لأبيه { وما أملك لك من الله من شيء } إكمال لجملة ما قاله إبراهيم لأبيه وإن كان المقصود من الاستثناء مجرد وعده بالاستغفار له فبني عليه ما هو من بقية كلامه لما فيه من الدلالة على أن الاستغفار له قد لا يقبله الله .

والواو في { وما أملك لك من الله من شيء } يجوز أن تكون للحال أو للعطف . والمعنى متقارب ، ومعنى الحال أوضح وهو تذييل .

ومعنى الملك في قوله : { وما أملك } القدرة ، وتقدم في قوله تعالى : { قل فمن يملك من الله شيئاً } في سورة [ العقود : 17 ] .

و{ من شيء } عامّ للمغفرة المسؤولة وغيرها مما يريده الله به .

{ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصير } .

الأظهر أن يكون هذا من كلام إبراهيم وقومه وجملة { إلا قول إبراهيم } إلى آخرها معترضة بين أجزاء القول فهو مما أمر المسلمون أن يأتسوا به ، وبه يكون الكلام شديد الاتصال مع قوله : { لقد كان لكم فيهم إسوة حسنة } [ الممتحنة : 6 ] .

ويحتمل أن يكون تعليماً للمؤمنين أن يقولوا هذا الكلام ويستحضروا معانيه ليجري عملهم بمقتضاه فهو على تقدير أمر بقول محذوف والمقصود من القول العمل بالقول فإن الكلام يجدد المعنى في نفس المتكلم به ويذكر السامع من غفلته . وهذا تتميم لما أوصاهم به من مقاطعة الكفار بعد التحريض على الائتساء بإبراهيم ومن معه .

فعلى المعنى الأول يكون حكاية لما قاله إبراهيم وقومه بما يفيد حاصل معانيه فقد يكون هو معنى ما حكاه الله عن إبراهيم من قوله : { الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفينِ والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } [ الشعراء : 78 82 ] .

فإن التوكل على الله في أمور الحياة بسؤاله النجاح في ما يصلح أعمال العبد في مساعيه وأعظمه النجاحُ في دينه وما فيه قوام عيشه ثم ما فيه دفع الضرّ . وقد جمعها قول إبراهيم هناك { فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين } . وهذا جمعه قوله هنا { عليك توكلنا } { والذي يميتني ثم يحيين } جمعه قوله : { وإليك المصير } فإن المصير مَصيرانِ مصيرٌ بعد الحياة ومصير بعد البعث .

وقوله : { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي } فإن وسيلة الطمع هي التوبة وقد تضمنها قوله : { وإليك أنبنا } .

وعلى المعنى الثاني هو تعليم للمؤمنين أن يَصرفوا توجههم إلى الله بإرضائه ولا يلتفتوا إلى ما لا يرضاه وإن حسبوا أنهم ينتفعون به فإن رضى الله مقدم على ما دونه .

والقول في معنى التوكل تقدم عند قوله تعالى : { فإذا عزمت فتوكل على الله } في سورة [ آل عمران : 159 ] .

والإِنابة : التوبة ، وتقدمت عند قوله تعالى : { إن إبراهيم لحليم أواه منيب } في سورة [ هود : 75 ] ، وعند قوله : { منيبين إليه } في سورة [ الروم : 31 ] .

وتقديم المجرور على هذه الأفعال لإِفادة القصر ، وهو قصر بعضه ادعائي وبعضه حقيقي كما تصرف إليه القرينة .

وإعادة النداء بقولهم : { ربنا } إظهار للتضرع مع كل دعوة من الدعوات الثلاث .


[415]:- شواهد الكشاف وصدر البيت: ولولا هن قد سومن مهري وقبله: لقد زاد الحياة إلي حبا *** بناتي إنهن من الضعاف