قوله تعالى : { ولله ما في السماوات وما في الأرض } وهذا معترض بين الآية الأولى وبين قوله : { ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا } فاللام في قوله : ( ليجزي ) متعلق بمعنى الآية الأولى ، لأنه إذا كان أعلم بهم جازى كلا بما يستحقه ، { الذين أساؤوا } أي : أشركوا : بما عملوا من الشرك ، { ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى } وحدوا ربهم بالحسنى بالجنة . وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان كثير الملك ، ولذلك قال :{ ولله ما في السماوات وما في الأرض } .
{ 31-32 } { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى }
يخبر تعالى أنه مالك الملك ، المتفرد بملك الدنيا والآخرة ، وأن جميع من في السماوات والأرض ملك لله ، يتصرف فيهم تصرف الملك العظيم ، في عبيده ومماليكه ، ينفذ فيهم قدره ، ويجري عليهم شرعه ، ويأمرهم وينهاهم ، ويجزيهم على ما أمرهم به ونهاهم [ عنه ] ، فيثيب المطيع ، ويعاقب العاصي ، ليجزي الذين أساؤوا العمل السيئات من الكفر فما دونه بما عملوا من أعمال الشر بالعقوبة البليغة{[900]} .
{ وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا } في عبادة الله تعالى ، وأحسنوا إلى خلق الله ، بأنواع المنافع { بِالْحُسْنَى } أي : بالحالة الحسنة في الدنيا والآخرة ، وأكبر ذلك وأجله رضا ربهم ، والفوز بنعيم الجنة{[901]} .
( ولله ما في السماوات وما في الأرض . ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) . .
وهذا التقرير لملكية الله - وحده - لما في السماوات وما في الأرض ، يمنح قضية الآخرة قوة وتأثيرا . فالذي جعل الآخرة وقدرها هو الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض وحده ، فهو القادر على الجزاء ، المختص به ، المالك لأسبابه . ومن شأن هذه الملكية أن تحقق الجزاء الكامل العادل : ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى . .
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض ، وأنه الغني عما سواه ، الحاكم في خلقه بالعدل ، وخلق الخلق بالحق ، { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } أي : يجازي كلا بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
ثم فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ، أي : لا يتعاطون المحرمات والكبائر ، وإن وقع منهم بعض الصغائر فإنه يغفر لهم ويستر عليهم ، كما قال في الآية الأخرى : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا } [ النساء : 31 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لِيَجْزِيَ الّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى } .
يقول تعالى ذكره : وَلِلّهِ مُلك ما في السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ من شيء ، وهو يضلّ من يشاء ، وهو أعلم بهم لِيَجْزِيَ الّذِينَ أساءُوا بِمَا عَمِلُوا يقول : ليجزي الذين عَصَوْه من خلقه ، فأساءوا بمعصيتهم إياه ، فيثيبهم بها النار وَيجْزِيَ الّذِينَ أحْسَنُوا بالحُسْنَى يقول : وليجزيَ الذين أطاعوه فأحسنوا بطاعتهم إياه في الدنيا بالحسنى وهي الجنة ، فيثيبهم بها .
وقيل : عُنِي بذلك أهل الشرك والإيمان . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، قال : قال زيد بن أسلم في قول الله : لِيَجْزِيَ الّذِينَ أساءُوا بِمَا عَمِلُوا ويَجْزِيَ الّذِينَ أحْسَنُوا المؤمنون .
وقوله : الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ يقول : الذين يبتعدون عن كبائر الإثم التي نهى الله عنها وحرمها عليهم فلا يقربونها ، وذلك الشرك بالله ، وما قد بيّناه في قوله : إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نَكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ .
وقوله : وَالفَواحِشَ وهي الزنا وما أشبهه ، مما أوجب الله فيه حدّا .
وقوله : إلاّ اللّمَمَ اختلف أهل التأويل في معنى «إلا » في هذا الموضع ، فقال بعضهم : هي بمعنى الاستثناء المنقطع ، وقالوا : معنى الكلام : الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ، إلا اللمم الذي ألمّوا به من الإثم والفواحش في الجاهلية قبل الإسلام ، فإن الله قد عفا لهم عنه ، فلا يؤاخذهم به . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ وَالفَوَاحِشَ إلاّ اللّمَمَ يقول : إلا ما قد سلف .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ وَالفَواحِشَ إلاّ اللّمَمَ قال : المشركون إنما كانوا بالأمس يعملون معناه ، فأنزل الله عزّ وجلّ إلاّ اللّمَمَ ما كان منهم في الجاهلية . قال : واللمم : الذي ألموا به من تلك الكبائر والفواحش في الجاهلية قبل الإسلام ، وغفرها لهم حين أسلموا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن عياش ، عن ابن عون ، عن محمد ، قال : سأل رجل زيد بن ثابت ، عن هذه الاَية الّذِيَنَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ وَالفَواحِشَ إلاّ اللّمَمَ فقال : حرّم الله عليك الفواحش ما ظهر منها وما بطن .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، قال : قال زيد بن أسلم في قول الله : الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ وَالفَوَاحِشَ إلاّ اللّمَمَ قال : كبائر الشرك والفواحش : الزنى ، تركوا ذلك حين دخلوا في الإسلام ، فغفر الله لهم ما كانوا ألموا به وأصابوا من ذلك قبل الإسلام .
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب ممن يوجه تأويل «إلا » في هذا الموضع إلى هذا الوجه الذي ذكرته عن ابن عباس يقول في تأويل ذلك : لم يؤذن لهم في اللمم ، وليس هو من الفواحش ، ولا من كبائر الإثم ، وقد يُستثنى الشيء من الشيء ، وليس منه على ضمير قد كفّ عنه فمجازه ، إلا أن يلمّ بشيء ليس من الفواحش ولا من الكبائر ، قال : الشاعر :
وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِها أَنِيسُ *** إلاّ اليَعافِيرُ وَإلاّ الْعِيسُ
واليعافير : الظباء ، والعيس : الإبل وليسا من الناس ، فكأنه قال : ليس به أنيس ، غير أن به ظباء وإبلاً . وقال بعضهم : اليعفور من الظباء الأحمر ، والأعيس : الأبيض .
وقال بنحو هذا القول جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، أن ابن مسعود قال : زنى العينين : النظر ، وزنى الشفتين : التقبيل ، وزنى اليدين : البطش ، وزنى الرجلين : المشي ، ويصدّق ذلك الفرْج أو يكذّبه ، فإن تقدّم بفرجه كان زانيا ، وإلا فهو اللمم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : وأخبرنا ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّ اللّهَ كَتَبَ على ابْنِ آدَمَ حَظّهُ مِنَ الزّنى أدْركَهُ ذلكَ لا مَحَالَةَ ، فَزِني العَيْنَيْنِ النّظَرُ ، وَزِني اللّسانِ المَنْطِقُ ، والنّفْسُ تَتَمَنّى وَتَشْتَهِي ، وَالفَرْجُ يُصَدّقُ ذلكَ أوْ يُكَذّبُهُ » .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق في قوله : إلاّ اللّمَمَ قال : إن تقدم كان زنى ، وإن تأخر كان لَمَما .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : حدثنا منصور بن عبد الرحمن ، قال : سألت الشعبيّ ، عن قول الله : يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ وَالفَوَاحِشَ إلاّ اللّمَمَ قال : هو ما دون الزنى ، ثم ذكر لنا عن ابن مسعود ، قال : زنى العينين ، ما نظرتْ إليه ، وزنى اليد : ما لمستْ ، وزنى الرجل : ما مشتْ والتحقيق بالفرج .
حدثني محمد بن معمر ، قال : حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا وهيب ، قال : حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيم بن عمرو القاريّ ، قال : ثني عبد الرحمن بن نافع الذي يقال له ابن لُبابة الطائفيّ ، قال : سألت أبا هُريرة عن قول الله : الّذِينَ يجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ وَالفَوَاحِشَ إلاّ اللّمَمَ قال : القُبلة ، والغَمزة ، والنظْرة والمباشرة ، إذا مسّ الختان الختان فقد وجب الغسل ، وهو الزنى .
وقال آخرون : بل ذلك استثناء صحيح ، ومعنى الكلام : الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إلا أن يلمّ بها ثم يتوب . ذكر من قال ذلك :
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا زكريا بن إسحاق ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ وَالفَوَاحِشَ إلاّ اللّمَمَ قال : هو الرجل يلمّ بالفاحشة ثم يتوب قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«إنْ تَغْفِرِ اللّهُمّ تَغْفِرْ جَمّا *** وأيّ عَبْدٍ لَكَ لا أَلمّا »
حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن مجاهد ، أنه قال في هذه الاَية إلاّ اللّمَمَ قال : الذي يلمّ بالذنب ثم يدعه ، وقال الشاعر :
إنْ تَغْفِرِ اللّهُمّ تَغْفِرِ جمّا *** وأيّ عَبْدِ لَكَ لا أَلمّا
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا يونس ، عن الحسن ، عن أبي هُريرة ، أراه رفعه : الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ وَالفَواحِشَ إلاّ اللّمَمَ قال : اللّمة من الزنى ، ثم يتوب ولا يعود ، واللّمة من السرقة ، ثم يتوب ولا يعود واللّمة من شرب الخمر ، ثم يتوب ولا يعود ، قال : فتلك الإلمام .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن ، في قول الله : الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرِ الإثْمِ وَالفَوَاحِشَ إلاّ اللّمَمَ قال : اللّمة من الزنى أو السرقة ، أو شرب الخمر ، ثم لا يعود .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ عن عوف ، عن الحسن ، في قول الله : الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ وَالفَوَاحِشَ إلاّ اللّمَمَ قال : اللمة من الزنى ، أو السرقة ، أو شرب الخمر ثم لا يعود .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ وَالفَوَاحِشَ إلاّ اللّمَمَ قال : قد كان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يقولون : هذا الرجل يصيب اللمة من الزنا ، واللّمة من شرب الخمر ، فيخفيها فيتوب منها .
حدثنا ابن حُمَيْد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، عن ابن عباس إلاّ اللّمَمَ يلمّ بها في الحين ، قلت الزنى ، قال : الزنى ثم يتوب .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، قال : قال معمر : كان الحسن يقول في اللّمم : تكون اللّمة من الرجل : الفاحشة ثم يتوب .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، قال : الزنى ثم يتوب .
قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن قتادة ، عن الحسن إلاّ اللّمَمَ قال : أن يقع الوقعة ثم ينتهي .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن عُيينة ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : اللّمم : الذي تُلِمّ المرّةَ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قال : أخبرني يحيى بن أيوب ، عن المثنى بن الصباح ، عن عمرو بن شعيب ، أن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : اللمم : ما دون الشرك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا مرّة ، عن عبد الله بن القاسم ، في قوله : إلاّ اللّمَمَ قال : اللّمة يلمّ بها من الذنوب .
حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : إلاّ اللّمَمَ قال : الرجل يلمّ بالذنب ثم ينزع عنه . قال : وكان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت وهم يقولون :
إنْ تَغْفِرِ اللّهُمّ تَغْفِرْ جَمّا *** وأيّ عَبْدٍ لَكَ لا أَلمّا
وقال آخرون ممن وجه معنى «إلا » إلى الاستثناء المنقطع : اللمم : هو دون حدّ الدنيا وحدّ الاَخرة ، قد تجاوز الله عنه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عطاء ، عن ابن الزبير إلاّ اللّمَمَ قال : ما بين الحدّين ، حدّ الدنيا ، وعذاب الاَخرة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن ابن عباس أنه قال : اللمم : ما دون الحدّين : حدّ الدنيا والاَخرة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن الحكم وقتادة ، عن ابن عباس بمثله ، إلا أنه قال : حدّ الدنيا ، وحدّ الاَخرة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا شعبة ، عن الحكم بن عتيبة ، قال : قال ابن عباس : اللمم ما دون الحدين ، حد الدنيا وحد الاَخرة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ والفَوَاحِشَ إلاّ اللّمَمَ قال : كلّ شيء بين الحدّين ، حدّ الدنيا وحدّ الاَخرة ، تكفّره الصلوات ، وهو اللمم ، وهو دون كل موجب فأما حدّ الدنيا فكلّ حدّ فرض الله عقوبته في الدنيا وأما حدّ الاَخرة فكلّ شيء ختمه الله بالنار ، وأخّر عقوبته إلى الاَخرة .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرِمة ، في قوله : إلاّ اللّمَمَ يقول : ما بين الحدين ، كل ذنب ليس فيه حدّ في الدنيا ولا عذاب في الاَخرة ، فهو اللمم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثمِ والفَوَاحِشَ إلاّ اللّمَمَ واللمم : ما كان بين الحدّين لم يبلغ حدّ الدنيا ولا حدّ الاَخرة موجبة ، قد أوجب الله لأهلها النار ، أو فاحشة يقام عليه الحدّ في الدنيا .
وحدثنا ابن حُمَيْد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن قتادة ، قال : قال بعضهم : اللمم : ما بين الحدّين : حدّ الدنيا ، وحدّ الاَخرة .
حدثنا أبو كُرَيب ويعقوب ، قالا : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، قال : حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة عن ابن عباس ، قال : اللمم : ما بين الحدّين : حدّ الدنيا ، وحدّ الاَخرة .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، قال : قال الضحاك إلاّ اللّمَمَ قال : كلّ شيء بين حدّ الدنيا والاَخرة فهو اللمم يغفره الله .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال «إلا » بمعنى الاستثناء المنقطع ، ووجّه معنى الكلام إلى الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ والفَوَاحِشَ إلاّ اللّمَمَ بما دون كبائر الإثم ، ودون الفواحش الموجبة للحدود في الدنيا ، والعذاب في الاَخرة ، فإن ذلك معفوّ لهم عنه ، وذلك عندي نظير قوله جلّ ثناؤه : إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ وَنُدْخِلُكُمْ مُدْخَلاً كَرِيما فوعد جلّ ثناؤه باجتناب الكبائر ، العفو عما دونها من السيئات ، وهو اللمم الذي قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «العَيْنانِ تَزْنِيانِ ، وَاليَدَانِ تَزْنِيانِ ، وَالرّجْلانِ تَزْنِيانِ وَيُصَدّقُ ذلكَ الفَرْجُ أوْ يُكَذّبُهُ » ، وذلك أنه لا حد فيما دون ولوج الفرج في الفرج ، وذلك هو العفو من الله في الدنيا عن عقوبة العبد عليه ، والله جلّ ثناؤه أكرم من أن يعود فيما قد عفا عنه ، كما رُوِي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم واللمم في كلام العرب : المقاربة للشيء ، ذكر الفرّاء أنه سمع العرب تقول : ضربه ما لمم القتل ، يريدون ضربا مقاربا للقتل . قال : وسمعت من آخر : ألمّ يفعل في معنى : كاد يفعل .
{ ولله ما في السموات وما في الأرض } خلقا وملكا . { ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا } بعقاب ما عملوا من السوء أو بمثله أو بسبب ما عملوا من السوء ، وهو بمثله دل عليه ما قبله أي خلق العالم وسواه للجزاء ، أو ميز الضال عن المهتدي وحفظ أحوالهم لذلك { ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى } بالمثوبة الحسنى وهي الجنة ، أو بأحسن من أعمالهم أو بسبب الأعمال الحسنى .
عطف على قوله : { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله } الخ فبعد أن ذكر أن لله أمور الدارين بقوله : { فللَّه الآخرة والأولى } [ النجم : 25 ] انتقل إلى أهم ما يجري في الدارين من أحوال الناس الذين هم أشرف ما على الأرض بمناسبة قوله : { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله } [ النجم : 30 ] المراد به الإِشارة إلى الجزاء وهو إثبات لوقوع البعث والجزاء .
فالمقصود الأصلي من هذا الكلام هو قوله : { وما في الأرض } لأن المهم ما في الأرض إذ هم متعلق الجزاء ، وإنما ذكر معه ما في السماوات على وجه التتميم للإِعلام بإحاطة ملك الله لما احتوت عليه العوالم كلها ونكتة الابتداء بالتتميم دون تأخيره الذي هو مقتضى ظاهر في التتميمات هي الاهتمام بالعالم العلوي لأنه أوسع وأشرف وليكون المقصود وهو قوله : { ليجزى الذين أساءوا بما عملوا } الآية مقترناً بما يناسبه من ذكر ما في الأرض لأن المجزيين هم أهل الأرض ، فهذه نكتة مخالفة مقتضى الظاهر .
فيجوز أن يتعلق قوله : { ليجزى } بما في الخبر من معنى الكون المقدَّر في الجار والمجرور المخبر به عن { ما في السموات وما في الأرض } أي كائن ملكاً لله كوناً علته أن يجزي الذين أساءوا والذين أحسنوا من أهل الأرض ، وهم الذين يصدر منهم الإِساءة والإِحسان فاللام في قوله : { ليجزي } لام التعليل ، جعل الجزاء علة لثبوت ملك الله لما في السموات والأرض .
ومعنى هذا التعليل أنّ من الحقائق المرتبطة بثبوت ذلك الملك ارتباطاً أوَّليًّا في التعقل والاعتبار لا في إيجاد فإن ملك الله لما في السماوات وما في الأرض ناشىء عن إيجاد الله تلك المخلوقات والله حين أوجدها عالم أن لها حياتين وأن لها أفعالاً حسنة وسيئة في الحياة الدنيا وعالم أنه مجزيها على أعمالها بما يناسبها جزاء خالداً في الحياة الآخرة فلا جرم كان الجزاء غايةً لإِيجاد ما في الأرض فاعتبر هو العلة في إيجادهم وهي علة باعثة يحتمل أن يكون معها غيرُها لأن العلة الباعثة يمكن تعددها في الحكمة .
ويجوز أن يتعلق بقوله : { أعلم } من قوله : { هو أعلم بمن ضل عن سبيله } [ النجم : 30 ] ، أي من خصائص علمه الذي لا يعزب عنه شيء أن يكون علمه مرتباً عليه الجزاءُ .
والباءاننِ في قوله : { بما عملوا } وقوله : { بالحسنى } لتعدية فعْلي { ليجزي } و { يجزي } فما بعد الباءَيْن في معنى مفعول الفعلين ، فهما داخلتان على الجزاء ، وقوله : { بما عملوا } حينئذٍ تقديره : بمثل ما عملوا ، أي جزاء عادلاً مماثلاً لما عملوا ، فلذلك جعل بمنزلة عين ما عملوه على طريقة التشبيه البليغ .
وقوله : { بالحسنى } أي بالمثوبة الحسنى ، أي بأفضل مما عملوا ، وفيه إشارة إلى مضاعفة الحسنات كقوله : { من جاء بالحسنة فله خير منها } [ النمل : 89 ] . والحسنى : صفة لموصوف محذوف يدل عليه { يجزي } وهي المثوبة بمعنى الثواب .
وجاء ترتيب التفصيل لجزاء المسيئين والمحسنين على وفق ترتيب إجماله الذي في قوله : { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى } [ النجم : 30 ] على طريقة اللف والنشر المرتب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم عظم نفسه بأنه غني عن عبادتهم، والملائكة وغيرهم عبيده وفي ملكه؛ فقال: {ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا} في الآخرة {الذين أساءوا بما عملوا} من الشرك في الدنيا...، أنه قال في الأنعام، والنساء: {ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} [الأنعام:12، النساء:87] يعني لا شك في البعث أنه كائن {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا} من الشرك في الدنيا {ويجزي الذين أحسنوا}... في الدنيا {بالحسنى} وهي الجنة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَلِلّهِ "مُلك "ما في السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ" من شيء، وهو يضلّ من يشاء، وهو أعلم بهم "لِيَجْزِيَ الّذِينَ أساءُوا بِمَا عَمِلُوا" يقول: ليجزي الذين عَصَوْه من خلقه، فأساءوا بمعصيتهم إياه، فيثيبهم بها النار، "وَيجْزِيَ الّذِينَ أحْسَنُوا بالحُسْنَى" يقول: وليجزيَ الذين أطاعوه فأحسنوا بطاعتهم إياه في الدنيا بالحسنى وهي الجنة، فيثيبهم بها.
وقيل: عُنِي بذلك أهل الشرك والإيمان. وقوله: "الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ" يقول: الذين يبتعدون عن كبائر الإثم التي نهى الله عنها وحرمها عليهم فلا يقربونها، وذلك الشرك بالله، وما قد بيّناه في قوله: "إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نَكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ".
وقوله: "وَالفَواحِشَ" وهي الزنا وما أشبهه، مما أوجب الله فيه حدّا.
وقوله: "إلاّ اللّمَمَ" اختلف أهل التأويل في معنى «إلا» في هذا الموضع، فقال بعضهم: هي بمعنى الاستثناء المنقطع، وقالوا: معنى الكلام: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، إلا اللمم الذي ألمّوا به من الإثم والفواحش في الجاهلية قبل الإسلام، فإن الله قد عفا لهم عنه، فلا يؤاخذهم به... وكان بعض أهل العلم بكلام العرب ممن يوجه تأويل «إلا» في هذا الموضع إلى هذا الوجه الذي ذكرته عن ابن عباس يقول في تأويل ذلك: لم يؤذن لهم في اللمم، وليس هو من الفواحش، ولا من كبائر الإثم، وقد يُستثنى الشيء من الشيء، وليس منه على ضمير قد كفّ عنه فمجازه، إلا أن يلمّ بشيء ليس من الفواحش ولا من الكبائر... عن أبي الضحى، أن ابن مسعود قال: زنى العينين: النظر، وزنى الشفتين: التقبيل، وزنى اليدين: البطش، وزنى الرجلين: المشي، ويصدّق ذلك الفرْج أو يكذّبه، فإن تقدّم بفرجه كان زانيا، وإلا فهو اللمم...
وقال آخرون: بل ذلك استثناء صحيح، ومعنى الكلام: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم، إلا أن يلمّ بها ثم يتوب...
وقال آخرون ممن وجه معنى «إلا» إلى الاستثناء المنقطع: اللمم: هو دون حدّ الدنيا وحدّ الآخرة، قد تجاوز الله عنه... عن ابن عباس، قوله: "الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ والفَوَاحِشَ إلاّ اللّمَمَ" قال: كلّ شيء بين الحدّين، حدّ الدنيا وحدّ الآخرة، تكفّره الصلوات، وهو اللمم، وهو دون كل موجب فأما حدّ الدنيا فكلّ حدّ فرض الله عقوبته في الدنيا وأما حدّ الآخرة فكلّ شيء ختمه الله بالنار، وأخّر عقوبته إلى الآخرة...
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال «إلا» بمعنى الاستثناء المنقطع، ووجّه معنى الكلام إلى "الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ والفَوَاحِشَ إلاّ اللّمَمَ" بما دون كبائر الإثم، ودون الفواحش الموجبة للحدود في الدنيا، والعذاب في الآخرة، فإن ذلك معفوّ لهم عنه، وذلك عندي نظير قوله جلّ ثناؤه: "إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ وَنُدْخِلُكُمْ مُدْخَلاً كَرِيما" فوعد جلّ ثناؤه باجتناب الكبائر، العفو عما دونها من السيئات، وهو اللمم الذي قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «العَيْنانِ تَزْنِيانِ، وَاليَدَانِ تَزْنِيانِ، وَالرّجْلانِ تَزْنِيانِ وَيُصَدّقُ ذلكَ الفَرْجُ أوْ يُكَذّبُهُ»، وذلك أنه لا حد فيما دون ولوج الفرج في الفرج، وذلك هو العفو من الله في الدنيا عن عقوبة العبد عليه، والله جلّ ثناؤه أكرم من أن يعود فيما قد عفا عنه، كما رُوِي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. واللمم في كلام العرب: المقاربة للشيء، ذكر الفرّاء أنه سمع العرب تقول: ضربه ما لمم القتل، يريدون ضربا مقاربا للقتل. قال: وسمعت من آخر: ألمّ يفعل في معنى: كاد يفعل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما: {ولله ما في السماوات وما في الأرض} وهو غنيّ عن عبادتكم، وإنما يأمركم، ليجزيكم بأعمالكم لا لمنافع ترجع إليه.
والثاني: {ولله ما في السماوات وما في الأرض} أي إنما أنشأ أهل السماوات والأرض ليمتحنهم بالأمر والنهي، ثم ليجزي الذين أساؤوا جزاء الإساءة والذين أحسنوا جزاء الإحسان. ولو كان على ما قال أولئك الكفرة: أن لا بعث، ولا جزاء، لكان خلقُهم وخلق ما ذكر عبثا باطلا. وفي الحكمة التفريق بين المُسيء والمحسن، وفي الدنيا تحقّقت التّسوية بينهما، فدلّ ذلك على دار أخرى، يُفرَّق بينهما فيها. ثم يحتمل جزاء إساءة أولئك في الدنيا والآخرة: في الدنيا القهر والدّبرة والهزيمة، وفي الآخرة النار، وجزاء المحسن في الدنيا النصر والظّفر، وفي الآخرة الجنة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ومعناه: أنّ الله عز وجل إنما خلق العالم وسوّى هذه الملكوت لهذا الغرض: وهو أن يجازي المحسن من المكلفين والمسيء منهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ولله ما في السماوات وما في الأرض} اعتراض بين الكلام بليغ، وقال بعض النحويين اللام متعلقة بما في المعنى من التقدير، لأن تقديره: {ولله ما في السماوات وما في الأرض} يضل من يشاء ويهدي من يشاء {ليجزي} والنظر الأول أقل تكلفاً من هذا الإضمار. و: {الحسنى} هي الجنة ولا حسنى دونها.
{ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أحسنوا بالحسنى} إشارة إلى كمال غناه وقدرته ليذكر بعد ذلك ويقول: إن ربك هو أعلم من الغني القادر لأن من علم ولم يقدر لا يتحقق منه الجزاء...
{ليجزي} متعلق بقوله: ضل واهتدى لا بالعلم ولا بخلق ما في السماوات، تقديره كأنه قال: هو أعلم بمن ضل واهتدى: {ليجزي} أن من ضل واهتدى يجزي الجزاء، والله أعلم به، فيصير قوله: {ولله ما في السماوات وما في الأرض} كلاما معترضا...
وقوله تعالى في حق المسيء {بما عملوا} وفي حق المحسن {بالحسنى} فيه لطيفة لأن جزاء المسيء عذاب فنبه على ما يدفع الظلم فقال: لا يعذب إلا عن ذنب، وأما في الحسنى فلم يقل: بما عملوا لأن الثواب إن كان لا على حسنة يكون في غاية الفضل فلا يخل بالمعنى هذا إذا قلنا الحسنى هي المثوبة بالحسنى، وأما إذا قلنا الأعمال الحسنى ففيه لطيفة غير ذلك، وهي أن أعمالهم لم يذكر فيها التساوي، وقال في أعمال المحسنين {الحسنى} إشارة إلى الكرم والصفح حيث ذكر أحسن الاسمين والحسنى صفة أقيمت مقام الموصوف كأنه تعالى قال بالأعمال الحسنى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولله} أي الملك الأعظم وحده {ما في السماوات} من الذوات والمعاني فيشمل ذلك السماوات والأراضي، فإن كل سماء في التي تليها، والأرض في السماء {وما في الأرض} وكذلك الأراضي والكل في العرش وهو ذو العرش العظيم. ولما أمره صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم وسلاه وأعلمه أن الكل في ملكه، فلو شاء لهداهم ورفع النزاع، ولكنه له في ذلك حكم تحار فيها...
. {الذين أساؤوا} بالضلال {بما عملوا} أي بسببه وبحسبه إما بواسطتك وبسيوفك وسيوف أتباعك إذا أذنت لكم في القتال، وإما بغير ذلك بالموت حتف الأنف بضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم، ثم بعذاب الآخرة على جميع ذنوبهم من غير أن يكون عجل لهم في الدنيا شيء ينقص بسببه عذاب الآخرة {ويجزي} أي يثبت ويكرم {الذين أحسنوا} أي على ثباتهم على الدين وصبرهم عليه وعلى أذى أعدائهم {بالحسنى} أي الثبوت الذي هو في غاية الحسن ما بعدها غاية، فإن الحسنى تأنيث الأحسن.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ولله ما في السماوات وما في الأرض. ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى).. وهذا التقرير لملكية الله -وحده- لما في السماوات وما في الأرض، يمنح قضية الآخرة قوة وتأثيرا. فالذي جعل الآخرة وقدرها هو الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض وحده، فهو القادر على الجزاء، المختص به، المالك لأسبابه. ومن شأن هذه الملكية أن تحقق الجزاء الكامل العادل: ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالمقصود الأصلي من هذا الكلام هو قوله: {وما في الأرض} لأن المهم ما في الأرض إذ هم متعلق الجزاء، وإنما ذكر معه ما في السماوات على وجه التتميم للإِعلام بإحاطة ملك الله لما احتوت عليه العوالم كلها ونكتة الابتداء بالتتميم دون تأخيره الذي هو مقتضى ظاهر في التتميمات هي الاهتمام بالعالم العلوي لأنه أوسع وأشرف وليكون المقصود وهو قوله: {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا} الآية مقترناً بما يناسبه من ذكر ما في الأرض لأن المجزيين هم أهل الأرض، فهذه نكتة مخالفة مقتضى الظاهر...
والباءانِ في قوله: {بما عملوا} وقوله: {بالحسنى} لتعدية فعْلي {ليجزي} و {يجزي} فما بعد الباءَيْن في معنى مفعول الفعلين، فهما داخلتان على الجزاء، وقوله: {بما عملوا} حينئذٍ تقديره: بمثل ما عملوا، أي جزاء عادلاً مماثلاً لما عملوا، فلذلك جعل بمنزلة عين ما عملوه على طريقة التشبيه البليغ. وقوله: {بالحسنى} أي بالمثوبة الحسنى، أي بأفضل مما عملوا، وفيه إشارة إلى مضاعفة الحسنات كقوله: {من جاء بالحسنة فله خير منها} [النمل: 89]. والحسنى: صفة لموصوف محذوف يدل عليه {يجزي} وهي المثوبة بمعنى الثواب.
هذا أيضاً أسلوب قصر بتقديم الخبر. أي: لله وحده.
وفي آية أخرى قال تعالى: { لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ.. } [الشورى: 49] فالسماوات والأرض عجيبة في ذاتها، والذي فيها أعجب {وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ..} [النجم: 31] وقال: { وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ.. } [النحل: 77].
فهذه مراحل ثلاث في مُلك الله، يملك سبحانه الظرف السماوات والأرض، ويملك المظروف أي: ما في السماوات وما في الأرض وكل منهما عجيب ويملك الأعجب من ذلك، وهو ما خفي عنا في ملكوت السماوات والأرض.
وهذا يعني أنك أيها الإنسان لا تزهد في الاستنباط، فالكون مليء بما تعلمه وما لا تعلمه من الآيات والعجائب، وفيه عطاءات لا تتناهى ولا تنفد، ما دامت السماوات والأرض، فإذا نفدت العجائب والأسرار بنفاد الدنيا جاءت عجائب وأسرار الآخرة.
ثم يُبيِّن سبحانه أن هذه الملك في السماوات والأرض يترتب عليه الجزاء في الآخرة، لأن الملك ملكُ الله، والخَلْق خَلْق الله، والرسل رسل الله، والمنهج منهج الله، فأمامك أيها الإنسان الكون الفسيح وما فيه من آيات كونية تدل على قدرة الخالق سبحانه فاستدل بالخلق على الخالق.
ثم أرسل لك الرسل وأنزل الكتب وشرَّع الشرائع وبيَّن الحلال والحرام، وبيَّن الحدود، وبيَّن الجزاء، فلا بد أنْ ينتهي مُلْك السماوات والأرض إلى الجزاء، والجزاء لا بد وأنْ يكون من جنس العمل {لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى} [النجم: 31].
والآيات ثلاث كما قلنا: آيات كونية تدل على قدرة الله، وآيات معجزات تدل على صدق الرسول في البلاغ عن الله، وآيات الأحكام التي يضمها القرآن الكريم، فمَنْ لم يعتبر بهذه الآيات ولم يحسن استقبالها فقد أساء فيُجزي بإساءته.
ومن أحسن استقبالها يُجزى بإحسانه وكأنه حيا المكلِّف سبحانه وتعالى بالطاعة فيُحييه الله بأحسن منها {وَيِجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى} [النجم: 31] أي: بالأحسن مما قدَّموا، فإذا كنا قد أمرنا في الدنيا بأنْ نرد التحية بأحسن منها، فالله أوْلى بذلك.
وتأمل هنا اللياقة في التعبير والدقة في الأداء، فلم يقُلْ: ليجزي الذين أساءوا بالسوء، ولكن {بِمَا عَمِلُواْ..} [النجم: 31] فلم يواجههم بكلمة السوء، ولكن وضع أمامهم العمل الذي قدَّموه.
وفي هذا إشارة إلى عدل الله { وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [آل عمران: 117]. ثم يقدم جزاء أهل السوء على جزاء أهل الإحسان، ليكون الجزاء بالحسنى هو آخر ما يباشر أسماعنا.
ثم تشرح الآيات وتُفصِّل القول في الذين أحسنوا، ما وجوه الإحسان في أعمالهم.