مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَـٰٓـُٔواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ بِٱلۡحُسۡنَى} (31)

ثم قال تعالى : { ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أحسنوا بالحسنى } إشارة إلى كمال غناه وقدرته ليذكر بعد ذلك ويقول : إن ربك هو أعلم من الغني القادر لأن من علم ولم يقدر لا يتحقق منه الجزاء فقال : { ولله ما في السماوات وما في الأرض } وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال الزمخشري : ما يدل على أنه يعتقد أن اللام في قوله : { ليجزى } كاللام في قوله تعالى : { والخيل والبغال والحمير لتركبوها } وهو جرى في ذلك على مذهبه فقال : { ولله ما في السماوات وما في الأرض } معناه خلق ما فيهما لغرض الجزاء وهو لا يتحاشى مما ذكره لما عرف من مذهب الاعتزال ، وقال الواحدي : اللام للعاقبة كما في قوله تعالى : { ليكون لهم عدوا } أي أخذوه وعاقبته أنه يكون لهم عدوا ، والتحقيق فيه وهو أن حتى ولام الغرض متقاربان في المعنى ، لأن الغرض نهاية الفعل ، وحتى للغاية المطلقة فبينهما مقاربة فيستعمل أحدهما مكان الآخر ، يقال : سرت حتى أدخلها ولكي أدخلها ، فلام العاقبة هي التي تستعمل في موضع حتى للغاية ، ويمكن أن يقال : هنا وجه أقرب من الوجهين وإن كان أخفى منهما وهو أن يقال : إن قوله : { ليجزى } متعلق بقوله : ضل واهتدى لا بالعلم ولا بخلق ما في السماوات ، تقديره كأنه قال : هو أعلم بمن ضل واهتدى : { ليجزى } أن من ضل واهتدى يجزي الجزاء ، والله أعلم به ، فيصير قوله : { ولله ما في السماوات وما في الأرض } كلاما معترضا ، ويحتمل أن يقال : هو متعلق بقوله تعالى : { فأعرض } أي أعرض عنهم ليقع الجزاء ، كما يقول المريد فعلا لمن يمنعه منه زرني لأفعله ، وذلك لأن ما دام النبي صلى الله عليه وسلم لم ييأس ما كان العذاب ينزل والإعراض وقت اليأس ، وقوله تعالى : { ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى } حينئذ يكون مذكورا ليعلم أن العذاب الذي عند إعراضه يتحقق ليس مثل الذي قال تعالى فيه : { واتقوا فتنة لا نصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } بل هو مختص بالذين ظلموا وغيرهم لهم الحسنى ، وقوله تعالى في حق المسيء { بما عملوا } وفي حق المحسن { بالحسنى } فيه لطيفة لأن جزاء المسيء عذاب فنبه على ما يدفع الظلم فقال : لا يعذب إلا عن ذنب ، وأما في الحسنى فلم يقل : بما عملوا لأن الثواب إن كان لا على حسنة يكون في غاية الفضل فلا يخل بالمعنى هذا إذا قلنا الحسنى هي المثوبة بالحسنى ، وأما إذا قلنا الأعمال الحسنى ففيه لطيفة غير ذلك ، وهي أن أعمالهم لم يذكر فيها التساوي ، وقال في أعمال المحسنين { الحسنى } إشارة إلى الكرم والصفح حيث ذكر أحسن الاسمين والحسنى صفة أقيمت مقام الموصوف كأنه تعالى قال بالأعمال الحسنى كقوله تعالى : { الأسماء الحسنى } وحينئذ هو كقوله تعالى : { لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون } أي يأخذ أحسن أعمالهم ويجعل ثواب كل ما وجد منهم لجزاء ذلك الأحسن أو هي صفة المثوبة ، كأنه قال : ويجزي الذين أحسنوا بالمثوبة الحسنى أو بالعاقبة الحسنى أي جزاؤهم حسن العاقبة وهذا جزاء فحسب ، وأما الزيادة التي هي الفضل بعد الفضل فغير داخلة فيه .