يقول تعالى لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم : { فَاسْتَفْتِهِمْ } أي : اسأل المشركين باللّه غيره ، الذين عبدوا الملائكة ، وزعموا أنها بنات اللّه ، فجمعوا بين الشرك باللّه ، ووصفه بما لا يليق بجلاله ، { أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ } أي : هذه قسمة ضيزى ، وقول جائر ، من جهة جعلهم الولد للّه تعالى ، ومن جهة جعلهم أردأ القسمين وأخسهما له وهو البنات التي لا يرضونهن لأنفسهم ، كما قال في الآية الأخرى { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ } ومن جهة جعلهم الملائكة بنات اللّه ، وحكمهم بذلك .
فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون ? أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون ? ألا إنهم من إفكهم ليقولون : ولد الله . وإنهم لكاذبون . أصطفى البنات على البنين ? مالكم كيف تحكمون ? أفلا تذكرون ? أم لكم سلطان مبين ? فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين . .
إنه يحاصر أسطورتهم في كل مساربها ؛ ويحاجهم بمنطقهم ومنطق بيئتهم التي يعيشون فيها . وهم كانوا يؤثرون البنين على البنات ؛ ويعدون ولادة الأنثى محنة ، ويعدون الأنثى مخلوقاً أقل رتبة من الذكر . ثم هم الذين يدعون أن الملائكة إناث . وأنهم بنات الله !
فهو هنا يستطرد معهم وفق منطقهم ، ويأخذهم به ليروا مدى تهافت الأسطورة وسخفها حتى بمقاييسهم الشائعة :
( فاستفتهم . . ألربك البنات ولهم البنون )?
أإذا كان الإناث أقل رتبة كما يدعون ؛ جعلوا لربهم البنات واستأثروا هم بالبنين ? ! أو اختار الله البنات وترك لهم البنين ? ! إن هذا أو ذاك لا يستقيم ! فاسألهم عن هذا الزعم المتهافت السقيم .
يقول تعالى منكرًا على هؤلاء المشركين في جعلهم لله البنات ، سبحانه ، ولهم ما يشتهون ، أي : من الذكور ، أي : يَودّون لأنفسهم الجيد . { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ } [ النحل : 58 ] أي : يسوءه ذلك ، ولا يختار لنفسه إلا البنين . يقول تعالى : فكيف نسبوا إلى الله [ تعالى ] القسم الذي لا يختارونه لأنفسهم ؟ ولهذا قال : { فَاسْتَفْتِهِمْ } أي : سلهم على سبيل الإنكار عليهم : { أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ } كقوله : { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى . تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } [ النجم : 21 ، 22 ] .
وقوله : { فاسْتَفْتِهِمْ } : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : سل يا محمد مشركي قومك من قريش ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فاسْتَفْتِهِمْ ألِرَبّكَ البَناتُ وَلهُمُ البَنُونَ } : يعني مشركي قريش . حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { فاسْتَفْتِهِمْ ألِرَبّكَ البَناتُ وَلَهُمُ البَنُونَ } : قال : سلهم ، وقرأ : { وَيَسْتَفْتُونَكَ } : قال : يسألونك . حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { فاسْتَفْتِهِمْ } : يقول : يا محمد سلهم .
وقوله : { ألِرَبّكَ البَناتُ وَلَهُمُ البَنُونَ } : ذكر أن مشركي قريش كانوا يقولون : الملائكة بنات الله ، وكانوا يعبدونها ، فقال الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام : سلهم ، وقل لهم : ألربي البنات ولكم البنون ؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { ألَرَبّكَ البَناتُ وَلَهُمُ البَنُونَ } ؟ لأنهم قالوا : يعني مشركي قريش : لله البنات ، ولهم البنون . حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : { فاسْتَفْتِهِمْ ألِرَبّكَ البَناتُ وَلهُمُ البَنُونَ } : قال : كانوا يعبدون الملائكة .
{ فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون } : معطوف على مثله في أول السورة ، أمر رسوله أولا باستفتاء قريش عن وجه إنكارهم البعث ، وساق الكلام في تقريره جارا لما يلائمه من القصص موصولا بعضها ببعض ، ثم أمر باستفتائهم عن وجه القسمة حيث جعلوا لله البنات ولأنفسهم البنين في قولهم : الملائكة بنات الله ، وهؤلاء زادوا على الشرك ضلالات أخر ، التجسيم وتجويز الفناء على الله تعالى ، فإن الولادة مخصوصة بالأجسام الكائنة الفاسدة ، وتفضيل أنفسهم عليه حيث جعلوا أوضع الجنسين له وأرفعهما لهم ، واستهانتهم بالملائكة حيث أنثوهم ولذلك كرر الله تعالى إنكار ذلك وإبطاله في كتابه مرارا ، وجعله مما { تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا } ، والإنكار ها هنا مقصور على الأخيرين لاختصاص هذه الطائفة بهما ، أو لأن فسادهما مما تدركه العامة بمقتضى طباعهم حيث جعل المعادل للاستفهام عن التقسيم .
تفريع على ما تقدم من الإِنكار على المشركين وإِبطال دعاويهم ، وضرب الأمثال لهم بنظرائهم من الأمم ففرع عليه أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بإبطال ما نسبه المشركون إلى الله من الولد . فضمير الغيبة من قوله : { فاستفتهم } عائد على غير مذكور يُعلَم من المقام . مثل نظيره السابق في قوله : { فاستفتهم أهم أشد خلقاً أمن خلقنا } [ الصافات : 11 ] . والمراد : التهكم عليهم بصورة الاستفتاء إذ يقولون : ولد الله ، على أنهم قسموا قسمة ضِيزَى حيث جعلوا لله البنات وهم يرغبون في الأبناء الذكور ويكرهون الإِناث ، فجعلوا لله ما يكرهون . وقد جاءوا في مقالهم هذا بثلاثة أنواع من الكفر :
أحدها : أنهم أثبتوا التجسيم لله لأن الولادة من أحوال الأجسام .
الثاني : إيثار أنفسهم بالأفضل وجعلهم لله الأقل . قال تعالى : { وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمان مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم } [ الزخرف : 17 ] .
الثالث : أنهم جعلوا للملائكة المقربين وصف الأنوثة وهم يتعيرون بأبي الإِناث ، ولذلك كرر الله تعالى هذه الأنواع من كفرهم في كتابة غير مرة .
فجملة { ألِرَبك البنَاتُ } بيان لجملة { فاستفتهم } . وضمير { لربك } مخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم وهو حكاية للاستفتاء بالمعنى لأنه إذا استفتاهم يقول : ألربكم البنات ، وكذلك ضمير { ولهم } محكي بالمعنى لأنه إنما يقول لهم : ولكم البنون . وهذا التصرف يقع في حكاية القول ونحوه مما فيه معنى القول مثل الاستفتاء .