ويذكر إبراهيم نعمة الله عليه من قبل ؛ فيلهج لسانه بالحمد والشكر شأن العبد الصالح يذكر فيشكر :
( الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ، إن ربي لسميع الدعاء ) . .
وهبة الذرية على الكبر أوقع في النفس . فالذرية امتداد . وما أجل الإنعام به عند شعور الفرد بقرب النهاية ، وحاجته النفسية الفطرية إلى الامتداد . وإن إبراهيم ليحمد الله ، ويطمع في رحمته :
ثم حمد ربه ، عز وجل ، على ما رزقه من الولد بعد الكبر ، فقال : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ } أي : إنه ليستجيب لمن دعاه ، وقد استجاب لي فيما سألته{[15978]} من الولد .
القول في تأويل قوله تعالى : { الْحَمْدُ للّهِ الّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنّ رَبّي لَسَمِيعُ الدّعَآءِ } .
يقول : الحمد لله الذي رزقني على كبر من السنّ ولدا إسماعيل وإسحاق . إنّ رَبّي لَسَمِيعُ الدّعاءِ يقول : إن ربي لسميع دعائي الذي أدعوه به ، وقولي : اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنامَ وغير ذلك من دعائي ودعاء غيري ، وجميع ما نطق به ناطق لا يخفى عليه منه شيء .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن ضرار بن مرّة ، قال : سمعت شيخا يحدّث سعيد بن جبير ، قال : بُشر إبراهيم بعد سبع عشرة ومئة سنة .
{ الحمد لله الذي وهب لي على الكبر } أي وهب لي وأنا كبير آيس من الولد ، قيد الهبة بحال الكبر استعظاما للنعمة وإظهارا لما فيها من آلائه . { إسماعيل وإسحاق } . روي أنه ولد له إسماعيل لتسع وتسعين سنة وإسحاق لمائة واثنتي عشرة سنة . { إن ربي لسميع الدعاء } أي لمجيبه من قولك سمع الملك كلامي إذا اعتد به ، وهو من أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل أضيف إلى مفعوله أو فاعله على إسناد السماع إلى دعاء الله تعالى على المجاز ، وفيه إشعار بأنه دعا ربه وسأل منه الولد فأجابه ووهب له سؤله حين ما وقع اليأس منه ليكون من أجل النعم وأجلاها .
لما دعا الله لأَهَمّ ما يهمه وهو إقامة التوحيد وكان يرجو إجابة دعوته وأن ذلك ليس بَعجبُ في أمر الله خطر بباله نعمة الله عليه بما كان يسأله وهو أن وهب له ولدَيْن في إبان الكِبَر وحين اليأس من الولادة فناجى الله فحمده على ذلك وأثنى عليه بأنه سميع الدعاء ، أي مجيب ، أي متصف بالإجابة وصفاً ذاتياً ، تمهيداً لإجابة دعوته هذه كما أجاب دعوتَه سلفاً . فهذا مناسبة مَوقع هذه الجملة بعد ما قبلها بقرينة قوله : { إن ربي لسميع الدعاء } .
واسم الموصول إيماء إلى وجه بناء الحمد . و { على } في قوله : { على الكبر } للاستعلاء المجازي بمعنى { مع } ، أي وهب ذلك تعلياً على الحالة التي شأنها أن لا تسمح بذلك . ولذلك يفسرون { على } هذه بمعنى { مع } ، أي مع الكِبَر الذي لا تحصل معه الولادة . وكان عُمُر إبراهيم حين ولد له إسماعيل عليهما السلام ستا وثمانين سنة ( 86 ) . وعمره حين ولد له إسحاق عليهما السلام مائة سنة ( 100 ) . وكان لا يولد له من قبل .
وجملة { إن ربي لسميع الدعاء } تعليل لجملة { وهب } ، أي وهب ذلك لأنه سميع الدعاء . والسميع مستعمل في إجابة المطلوب كناية ، وصيغ بمثال المبالغة أو الصفة المشبهة ليدلّ على كثرة ذلك وأن ذلك شأنه ، فيفيد أنه وصف ذاتي لله تعالى .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول: الحمد لله الذي رزقني على كبر من السنّ ولدا إسماعيل وإسحاق. "إنّ رَبّي لَسَمِيعُ الدّعاءِ "يقول: إن ربي لسميع دعائي الذي أدعوه به، وقولي: "اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنامَ" وغير ذلك من دعائي ودعاء غيري، وجميع ما نطق به ناطق لا يخفى عليه منه شيء...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق} يكون حمده على الأمرين جميعا. على الهبة وعلى الولادة في حال الكبر، وهو حال الإياس، إذ كل واحد مما يوجب الحمد عليه والثناء. وقوله تعالى: {إن ربي لسميع الدعاء} قيل: لمجيب الدعاء...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أخبر بأن ربه الذي خلقه يجيب الدعاء لمن يدعوه وذلك يدل على أنه كان تقدم منه مسألة لله تعالى أن يهب له ولدا، فلذلك كان مجيبا له. والحمد هو الوصف الجميل على وجه التعظيم لصاحبه والإجلال له...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كأنه قال: كما أكرمتني بِهِبَة الوَلَدِ على الكِبَر؛ فأَكْرِمْني بهذه الأشياء التي سألتُها. ويقال الإشارة في هذا أنه قال: كما مَنَنْتَ عليَّ فوهبتني على الكِبَر هذه الأولاد فاجْنِبْنَا أن نعبد الأصنام لتكونَ النعمةُ كاملةً...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... وإنما ذكر حال الكبر لأنّ المنة بهبة الولد فيها أعظم، من حيث أنها حال وقوع اليأس من الولادة، والظفر بالحاجة على عقب اليأس من أجلّ النعم وأحلاها في نفس الظافر، ولأنّ الولادة في تلك السنّ العالية كانت آية لإبراهيم، {إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدعاء} كان قد دعا ربه وسأله الولد، فقال: رب هب لي من الصالحين، فشكر لله ما أكرمه به من إجابته فإن قلت: الله تعالى يسمع كل دعاء، أجابه أو لم يجبه. قلت: هو من قولك: سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله ومنه: سمع الله لمن حمده...
في المناسبة بين قوله: {ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء} وبين قوله: {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق} وذلك هو كأنه كان في قلبه أن يطلب من الله إعانتهما وإعانة ذريتهما بعد موته ولكنه لم يصرح بهذا المطلوب، بل قال: {ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن} أي أنك تعلم ما في قلوبنا وضمائرنا، ثم قال: {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق} وذلك يدل ظاهرا على أنهما يبقيان بعد موته وأنه مشغول القلب بسببهما فكان هذا دعاء لهما بالخير والمعونة بعد موته على سبيل الرمز والتعريض وذلك يدل على أن الاشتغال بالثناء عند الحاجة إلى الدعاء أفضل من الدعاء قال عليه السلام حاكيا عن ربه أنه قال:"من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" ثم قال: {إن ربي لسميع الدعاء}. واعلم أنه لما ذكر الدعاء على سبيل الرمز والتعريض لا على وجه الإيضاح والتصريح قال: {إن ربي لسميع الدعاء} أي هو عالم بالمقصود سواء صرحت به أو لم أصرح...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تم ما دعا به من النزاهة عن رجاسة الشرك وتبين بتقديمه أن أهم المهمات البراءة منه، أتبعه الحمد على ما رزق من النعم وما تبع ذلك من الإشارة إلى وجوب الشكر فقال: {الحمد لله} أي المستجمع لصفات الكمال {الذي وهب} والهبة: عطية تمليك من غير عقد، منّاً منه {لي} حال كوني مستعلياً {على الكبر} ومتمكناً منه على يأس من الولد {إسماعيل} الذي أسكنته هنا {وإسحاق} وهذا يدل على ما تقدم فهمي له من أن هذا الدعاء كان بعد بناء البيت وطمأنينته بإسحاق عليه السلام... ولما كان إتيان الولد له في سن لا يولد فيه لمثله، وجميع ما دعا به من الخوارق فوجوده لا يكاد يصدق، أشار إلى ذلك بتأكيد قوله: {إن ربي} أي المحسن إليّ {لسميع الدعاء *} أي من شأنه إجابة الدعاء على الوجه الأبلغ تعريضاً بالأنداد وإشارة إلى ما تضمنه تأسفه على العقم،...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{لَسَمِيعُ الدعاء}... وهو مع كونه من تتمة الحمدِ والشكر إذ هو وصفٌ له تعالى بأن ذلك الجميلَ سنّته المستمرّةُ تعليلٌ على طريقة التذييل للهبة المذكورة، وفيه إيذانٌ بتضاعف النعمة فيها حيث وقعت بعد الدعاءِ بقوله: {رَبّ هَبْ لي مِنَ الصالحين} فاقترنت الهبةُ بقبول الدعوةِ...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق} أي ليقوما مقامي في الدعوة إليه تعالى وبث الحنيفية وإقامة الصلاة بعد ذهابي {إن ربي لسميع الدعاء} أي مجيبه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فهبتهم من أكبر النعم، وكونهم على الكبر في حال الإياس من الأولاد نعمة أخرى، وكونهم أنبياء صالحين أجل وأفضل، {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} أي: لقريب الإجابة ممن دعاه وقد دعوته فلم يخيب رجائي، ثم دعا لنفسه ولذريته، فقال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فالذرية امتداد. وما أجل الإنعام به عند شعور الفرد بقرب النهاية، وحاجته النفسية الفطرية إلى الامتداد. وإن إبراهيم ليحمد الله، ويطمع في رحمته: (إن ربي لسميع الدعاء)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما دعا الله لأَهَمّ ما يهمه وهو إقامة التوحيد وكان يرجو إجابة دعوته وأن ذلك ليس بَعجبُ في أمر الله خطر بباله نعمة الله عليه بما كان يسأله وهو أن وهب له ولدَيْن في إبان الكِبَر وحين اليأس من الولادة فناجى الله فحمده على ذلك وأثنى عليه بأنه سميع الدعاء... و {على} في قوله: {على الكبر} للاستعلاء المجازي بمعنى {مع}، أي وهب ذلك تعلياً على الحالة التي شأنها أن لا تسمح بذلك...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{الحمد لله} فيه معنى القصر، أي أن الحمد لله تعالى وحده، فهو مانح النعم ومجريها وحده، وهو الذي وهبه في هذا الكبر العتي... وقوله: {على الكبر} تدل على جلال الشعور بالنعمة، إن ذلك واضح أنه إكرام من الله تعالى بخرق الأسباب...
والوهْب هو عطاء من مُعْطٍ بلا مقابل منك. وكل الذرية هِبة، لو لم تكن هبة لكانت رتيبة بين الزوجين، وأينما يوجد زوجان توجد. ولذلك قال الله: {يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور 49 أو يُزوّجهم ذُكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير 50} (الشورى)...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ} لعباده الذين يجد في قلوبهم الإخلاص له، وفي حياتهم الحاجة إليه، في أجواء الاعتماد الكلي عليه روحياً...