البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى ٱلۡكِبَرِ إِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ} (39)

لما ذكر أنه تعالى عمم ما يخفى هو ومن كنى عنه ، تمم جميع الأشياء ، وأنها غير خافية عنه تعالى .

وقيل : وما يخفى الآية من كلام الله عز وجل تصديقاً لإبراهيم عليه السلام كقوله تعالى : { وكذلك يفعلون } والظاهر أنْ هذه الجمل التي تكلم بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم تقع منه في زمان واحد ، وإنما حكى الله عنه ما وقع في أزمان مختلفة ، يدل على ذلك أن إسحاق لم يكن موجوداً حالة دعائه ، إذ ترك هاجر والطفل بمكة .

فالظاهر أنّ حمده الله تعالى على هبة ولديه له كان بعد وجود إسحاق ، وعلى الكبر يدل على مطلق الكبر ، ولم يتعرض لتعيين المدة التي وهب له فيها ولداه .

وروي أنه ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وولد له إسحاق وهو ابن مائة وثنتي عشرة سنة .

وقيل : إسماعيل لأربع وستين ، وإسحاق لتسعين .

وعن ابن جبير : لم يولد له إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة .

وإنما ذكر حال الكبر لأنّ المنة فيها بهبة الولد أعظم من حيث أنّ الكبر مظنة اليأس من الولد ، فإنّ مجيء الشيء بعد الإياس أحلى في النفس وأبهج لها .

وعلى الكبر في موضع الحال لأنه قال : وأنا كبير ، و( على ) على بابها من الاستعلاء لكنه مجاز ، إذ الكبر معنى لا جرم يتكون ، وكأنه لما أسنّ وكبر صار مستعلياً على الكبر .

وقال الزمخشري : على في قوله على الكبر بمعنى مع ، كقوله :

إني على ما ترين من كبري ***أعلم من حيث يؤكل الكتف

وكنى بسميع الدعاء عن الإجابة والتقبل ، وكان قد دعا الله أن يهبه ولداً بقوله : { رب هب لي من الصالحين } فحمد الله على ما وهبه من الولد وأكرمه به من إجابة دعائه .

والظاهر إضافة سميع إلى المفعول وهو من إضافة المثال الذي على وزن فعيل إلى المفعول ، فيكون إضافة من نصب ، ويكون ذلك حجة على إعمال فعيل الذي للمبالغة في المفعول على ما ذهب إليه سيبويه ، وقد خالف في ذلك جمهور البصريين ، وخالف الكوفيون فيه .

وفي إعمال باقي الخمسة الأمثلة فعول ، وفعال ، ومفعال ، وفعل ، وهذا مذكور في علم النحو .

ويمكن أن يقال في هذا ليس ذلك إضافة من نصب فيلزم جواز إعماله ، بل هي إضافة كإضافة اسم الفاعل في نحو : هذا ضارب زيد أمس .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون من إضافة فعيل إلى فاعله ، ويجعل دعاء الله سميعاً على الإسناد المجازي ، والمراد : سماع الله انتهى .

وهو بعيد لاستلزامه أن يكون من باب الصفة المشبهة ، والصفة متعدية ، ولا يجوز ذلك إلا عند أبي علي الفارسي حيث لا يكون لبس .

وأما هنا فاللبس حاصل ، إذ الظاهر أنه من إضافة المثال للمفعول ، لا من إضافته إلى الفاعل .

وإنما أجاز ذلك الفارسي في مثل : زيد ظالم العبيد إذا علم أنّ له عبيداً ظالمين .