قوله تعالى : { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم }نزلت في النضر بن الحارث ، وكان كثير الجدل وكان يقول : الملائكة بنات الله ، والقرآن أساطير الأولين ، وكان ينكر البعث وإحياء من صار تراباً . قوله تعالى : { ويتبع } أي : يتبع في جداله في الله بغير علم ، { كل شيطان مريد } والمريد : المتمرد الغالي العاتي المستمر في الشر .
{ 3 - 4 } { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ }
أي : ومن الناس طائفة وفرقة ، سلكوا طريق الضلال ، وجعلوا يجادلون بالباطل الحق ، يريدون إحقاق الباطل وإبطال الحق ، والحال أنهم في غاية الجهل ما عندهم من العلم شيء ، وغاية ما عندهم ، تقليد أئمة الضلال ، من كل شيطان مريد ، متمرد على الله وعلى رسله ، معاند لهم ، قد شاق الله ورسوله ، وصار من الأئمة الذين يدعون إلى النار .
في ظل هذا الهول المروع يذكر أن هنالك من يتطاول فيجادل في الله ، ولا يستشعر تقواه :
( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ، ويتبع كل شيطان مريد ، كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير ) . .
والجدال في الله ، سواء في وجوده تعالى ، أو في وحدانيته ، أو في قدرته ، أو في علمه ، أو في صفة ما من صفاته . . الجدال في شيء من هذا في ظل ذلك الهول الذي ينتظر الناس جميعا ، والذي لا نجاة منه إلا بتقوى الله وبرضاه . . ذلك الجدال يبدو عجيبا من ذي عقل وقلب ، لا يتقي شر ذلك الهول المزلزل المجتاح .
وياليته كان جدالا عن علم ومعرفة ويقين . ولكنه جدال ( بغير علم )جدال التطاول المجرد من الدليل . جدال الضلال الناشيء من اتباع الشيطان . فهذا الصنف من الناس يجادل في الله بالهوى : ( ويتبع كل شيطان مريد )عات مخالف للحق متبجح .
يقول تعالى ذامًّا لمن كذب بالبعث ، وأنكر قدرة الله على إحياء الموتى ، معرضا عما أنزل الله على أنبيائه ، متبعًا في قوله وإنكاره وكفره كل شيطان مريد ، من الإنس والجن ، وهذا حال أهل الضلال{[19997]} والبدع ، المعرضين عن الحق ، المتبعين للباطل ، يتركون ما أنزله الله على رسوله من الحق المبين ، ويتبعون أقوال رءوس الضلالة ، الدعاة إلى البدع بالأهواء والآراء ، ولهذا قال في شأنهم وأشباههم : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } ، أي : علم صحيح ، { وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ النّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتّبِعُ كُلّ شَيْطَانٍ مّرِيدٍ } .
ذكر أن هذه الاَية : نزلت في النضر بن الحارث .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُجادِلُ في اللّهِ بغَيْرِ عِلْمٍ قال : النضْر بن الحارث .
ويعني بقوله : مَنْ يُجادِلُ في اللّهِ بغَيْرِ عِلْمٍ من يخاصم في الله ، فيزعم أن الله غير قادر على إحياء من قد بَلي وصار ترابا ، بغير علم يعلمه ، بل بجهل منه بما يقول . وَيَتّبِعُ في قيله ذلك وجداله في الله بغير علم كُلّ شَيْطانٍ مّرِيدٍ .
قوله تعالى { ومن الناس } الآية ، قال ابن جريح نزلت في النضر بن الحارث وأبي بن خلف وقيل في أبي جهل بن هشام ثم هي بعد تتناول كل من اتصف بهذه الصفة ، و «المجادلة » :المحاجة ، والمادة مأخوذة من الجدل وهو الفتل والمعنى : [ يجادل ]{[8303]} في قدرة الله تعالى وصفاته{[8304]} ، وكان سبب الآية كلام من ذكر وغيرهم في أن الله تعالى لا يبعث الموتى ولايقيم الأجساد من القبور ، و «الشيطان » هنا هو مغويهم من الجن ويحتمل أن يكون الشيطان من الإنس والإنحاء على متبعيه و «المريد » المتجرد من الخير للشر ومنه الأمرد ، وشجرة مردى أي عارية من الورق ، وصرح ممرد أي مملس من زجاج ، وصخرة مرداء أي ملساء .
عطف على جملة { ياأيها الناس اتقوا ربكم } [ الحج : 1 ] ، أي الناس فريقان : فريق يمتثل الأمر فيتقي الله ويخشى عذابه ، وفريق يعرض عن ذلك ويعارضه بالجدل الباطِل في شأن الله تعالى من وحدانيته وصفاته ورسالته . وهذا الفريق هم أيمة الشرك وزعماء الكفر لأنهم الذين يتصدّون للمجادلة بما لهم من أغاليط وسفسطة وما لهم من فصاحة وتمويه .
والاقتصارُ على ذكرهم إيماء إلى أنهم لولا تضليلهم قومَهم وصدهم إياهم عن متابعة الدين لاتّبع عامة المشركين الإسلام لظهور حجته وقبولها في الفطرة .
وقيل : أريد ب { من يجادل في الله } النضر بن الحارث أو غيره كما سيأتي ، فتكون ( مَن ) الموصولة صادقة على متعدد عامة لكل مَن تصدق عليه الصلة .
والمجادلة : المخاصمة والمحاجّة . والظرفية مجازية ، أي يجادل جدلاً واقعاً في شأن الله . ووصف الجدل بأنه بغير علم ، أي جدلاً ملتبساً بمغايرة العلم ، وغير العلم هو الجهل ، أي جدلاً ناشئاً عن سوء نظر وسوء تفكير فلا يعلم ما تقتضيه الألوهية من الصفات كالوحدانية والعلم وفعل ما يشاء .
واتباع الشيطان : الانقياد إلى وسوسته التي يجدها في نفسه والتي تلقاها بمعتاده والعمل بذلك دون تردد ولا عَرض على نظر واستدلال .
وكلمة ( كل ) في قوله { كل شيطان } مستعملة في معنى الكثرة . كما سيأتي قريباً عند قوله تعالى : { وعلى كل ضامر } [ الحج : 27 ] في هذه السورة . وتقدم في تفسير قوله تعالى : { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } في [ سورة البقرة : 145 ] .
والمَرِيد : صفة مُشبهة مِن مَرُد بضم الراء على عمل ، إذا عتا فيه وبلغ الغاية التي تتجاوز ما يكون عليه أصحاب ذلك العمل ، وكأنه مُحول مِن مَرَد بفتح الراء بمعنى مَرَن إلى ضم الراء للدلالة على أن الوصف صار له سجية ، فالمريد صفة مشبهة ، أي العاتي في الشيطنة .