قوله تعالى : { ونمكن لهم في الأرض } نوطن لهم في أرض مصر والشام ، ونجعلها لهم مكاناً يستقرون فيه ، { ونري فرعون } قرأ الأعمش ، وحمزة والكسائي : يرى بالياء وفتحها فرعون { وهامان وجنودهما } مرفوعات على أن الفعل لهم ، وقرأ الآخرون بالنون وضمها ، وكسر الراء ، ونصب الياء ونصب ما بعده ، بوقوع الفعل عليه ، { منهم ما كانوا يحذرون } والحذر هو : التوقي من الضرر ، وذلك أنهم أخبروا أن هلاكهم على يد رجل من بني إسرائيل فكانوا على وجل منه ، فأراهم الله ما كانوا يحذرون .
{ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ } فهذه الأمور كلها ، قد تعلقت بها إرادة اللّه ، وجرت بها مشيئته ، { و } كذلك نريد أن { نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ } وزيره { وَجُنُودَهُمَا } التي بها صالوا وجالوا ، وعلوا وبغوا { مِنْهُمْ } أي : من هذه الطائفة المستضعفة . { مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } من إخراجهم من ديارهم ، ولذلك كانوا يسعون في قمعهم ، وكسر شوكتهم ، وتقتيل أبنائهم ، الذين هم محل ذلك ، فكل هذا قد أراده اللّه ، وإذا أراد أمرا سهل أسبابه ، ونهج طرقه ، وهذا الأمر كذلك ، فإنه قدر وأجرى من الأسباب -التي لم يشعر بها لا أولياؤه ولا أعداؤه- ما هو سبب موصل إلى هذا المقصود .
ولكن الله يريد غير ما يريد فرعون ؛ ويقدر غير ما يقدر الطاغية . والطغاة البغاة تخدعهم قوتهم وسطوتهم وحيلتهم ، فينسون إرادة الله وتقديره ؛ ويحسبون أنهم يختارون لأنفسهم ما يحبون ، ويختارون لأعدائهم ما يشاءون . ويظنون أنهم على هذا وذاك قادرون .
والله يعلن هنا إرادته هو ، ويكشف عن تقديره هو ؛ ويتحدى فرعون وهامان وجنودهما ، بأن احتياطهم وحذرهم لن يجديهم فتيلا :
( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ، ونجعلهم الوارثين ، ونمكن لهم في الأرض ، ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) .
فهؤلا ء المستضعفون الذين يتصرف الطاغية في شأنهم كما يريد له هواه البشع النكير ، فيذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ، ويسومهم سوء العذاب والنكال . وهو مع ذلك يحذرهم ويخافهم على نفسه وملكه ؛ فيبث عليهم العيون والأرصاد ، ويتعقب نسلهم من الذكور فيسلمهم إلى الشفار كالجزار ! هؤلاء المستضعفون يريد الله أن يمن عليهم بهباته من غير تحديد ؛ وأن يجعلهم أئمة وقادة لا عبيدا ولا تابعين ؛ وأن يورثهم الأرض المباركة [ التي أعطاهم إياها عندما استحقوها بعد ذلك بالإيمان والصلاح ] وأن يمكن لهم فيها فيجعلهم أقوياء راسخي الأقدام مطمئنين . وأن يحقق ما يحذره فرعون وهامان وجنودهما ، وما يتخذون الحيطة دونه ، وهم لا يشعرون !
هكذا يعلن السياق قبل أن يأخذ في عرض القصة ذاتها . يعلن واقع الحال ، وما هو مقدر في المآل . ليقف القوتين وجها لوجه : قوة فرعون المنتفشة المنتفخة التي تبدو للناس قادرة على الكثير . وقوة الله الحقيقية الهائلة التي تتهاوى دونها القوى الظاهرية الهزيلة التي ترهب الناس !
ويرسم بهذا الإعلان مسرح القصة قبل أن يبدأ في عرضها . والقلوب معلقة بأحداثها ومجرياتها ، وما ستنتهي إليه ، وكيف تصل إلى تلك النهاية التي أعلنها قبل البدء في عرضها .
ومن ثم تنبض القصة بالحياة ؛ وكأنها تعرض لأول مرة ، على أنها رواية معروضة الفصول ، لا حكاية غبرت في التاريخ . هذه ميزة طريقة الأداء القرآنية بوجه عام .
وقد فعل تعالى ذلك بهم ، كما قال : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } [ الأعراف : 137 ] وقال : { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 59 ] ، أراد فرعون بحوله وقوته أن ينجو من موسى ، فما نفعه ذلك مع قَدَر الملك العظيم الذي لا يخالف أمره القدري ، بل نفذ حكمه وجرى قلمه في القِدَم بأن يكون إهلاك فرعون على يديه ، بل يكون هذا الغلام الذي احترزت من وجوده ، وقتلت بسببه ألوفا من الولدان إنما منشؤه ومرباه على فراشك ، وفي دارك ، وغذاؤه من طعامك ، وأنت تربيه وتدلله وتتفداه ، وحتفك ، وهلاكك وهلاك جنودك على يديه ، لتعلم أن رب السموات العلا هو القادر الغالب العظيم ، العزيز القوي الشديد المحال ، الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن .
وقوله : ونُمَكّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ يقول : ونوطيء لهم في أرض الشام ومصر . وَنُرِيَ فرْعَوْنَ وهامانَ وَجُنُودَهُمَا كانوا قد أخبروا أن هلاكهم على يد رجل من بني إسرائيل ، فكانوا من ذلك على وجل منهم ، ولذلك كان فرعون يذبح أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، فأرى الله فرعون وهامان وجنودهما من بني إسرائيل على يد موسى بن عمران نبيه ما كانوا يحذرونه منهم من هلاكهم وخراب منازلهم ودورهم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ونُمَكّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ شيئا ما حذّر القوم ، قال : وذُكر لنا أن حازيا حزا لعدوّ الله فرعون ، فقال : يولد في هذا العام غلام من بني إسرائيل يسلبك ملكك ، فتتبّع أبناءهم ذلك العام ، يقتل أبناءهم ، ويستحيي نساءهم حذرا مما قال له الحازي .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، قال : كان لفرعون رجل ينظر له ويخبره ، يعني أنه كاهن ، فقال له : إنه يولد في هذا العام غلام يذهب بملككم ، فكان فرعون يذبح أبناءهم ، ويستحيي نساءهم حذرا ، فذلك قوله وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجنودهما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَنرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين : وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ بمعنى : ونرى نحن بالنون عطفا بذلك على قوله : ونُمَكّنَ لَهُمْ . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : «وَيَرَى فِرْعَوْنُ » على أن الفعل لفرعون ، بمعنى : ويعاين فرعون ، بالياء من يرى ، ورفع فرعون وهامان والجنود .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان في قرّاء الأمصار ، متقاربتا المعنى ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارىء فهو مصيب ، لأنه معلوم أن فرعون لم يكن ليرى من موسى ما رأى ، إلاّ بأن يريه الله عزّ وجلّ منه ، ولم يكن ليريه الله تعالى ذكره ذلك منه إلاّ رآه .
{ ونمكن لهم في الأرض } أرض مصر والشام ، وأصل التمكين أن تجعل للشيء مكانا يتمكن فيه ثم استعير للتسليط . وإطلاق الأمر . { ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم } من بني إسرائيل { ما كانوا يحذرون } من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم . وقرأ حمزة والكسائي { ويري } بالياء و{ فرعون وهامان وجنودهما } بالرفع .
وقرأ الأعمش «ولنمكن » بلام ، وقرأ الجمهور «ونُرِيَ فرعون » بضم النون وكسر الراء وفتح الياء ونصب فرعون ، وقرأ حمزة والكسائي «ويرَى » بالياء وفتح ا لراء وسكون الياء على الفعل الماضي وإسناد الفعل إلى { فرعون } ومن بعده والمعنى ويقع فرعون وقومه وجنوده فيما خافوه وحذروه من جهة بني إسرائيل وظهورهم ، { وهامان } هو وزير فرعون وأكبر رجاله . فذكر لمحله من الكفر ولنباهته في قومه فله في هذا الموضع صغار ولعنة لا شرف .