{ كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } قال ابن عباس : { كلا } يريد : لا يصدقون ، ثم استأنف فقال : { إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } قال بعضهم : عن كرامته ورحمته ممنوعون . وقال قتادة : هو ألا ينظر إليهم ولا يزكيهم . وقال أكثر المفسرين : عن رؤيته . قال الحسن : لو علم الزاهدون العابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدنيا . قال الحسين بن الفضل : كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته . وسئل مالك عن هذه الآية فقال : لما حجب الله أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه . وقال الشافعي رضي الله عنه : في قوله : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } دلالة على أن أولياء الله يرون الله عيانا .
كلا ! إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . ثم إنهم لصالو الجحيم . ثم يقال : هذا الذي كنتم به تكذبون . .
لقد حجبت قلوبهم المعاصي والآثام ، حجبتها عن الإحساس بربها في الدنيا . وطمستها حتى أظلمت وعميت في الحياة . . فالنهاية الطبيعية والجزاء الوفاق في الآخرة أن يحرموا النظر إلى وجه الله الكريم ، وأن يحال بينهم وبين هذه السعادة الكبرى ، التي لا تتاح إلا لمن شفت روحه ورقت وصفت واستحقت أن تكشف الحجب بينها وبين ربها . ممن قال فيهم في سورة القيامة :
( وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة ) . .
وهذا الحجاب عن ربهم ، عذاب فوق كل عذاب ، وحرمان فوق كل حرمان . ونهاية بائسة لإنسان يستمد إنسانيته من مصدر واحد هو اتصاله بروح ربه الكريم .
وقوله : { كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } أي : لهم يوم القيامة مَنزلٌ ونزل سجين ، ثم هم يوم القيامة مع{[29852]} ذلك محجوبون عن رؤية ربهم وخالقهم .
قال الإمام أبو عبد الله الشافعي : [ في ]{[29853]} هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل يومئذ{[29854]} .
وهذا الذي قاله الإمام الشافعي ، رحمه الله ، في غاية الحسن ، وهو استدلال بمفهوم هذه الآية ، كما دل عليه منطوق قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 ، 23 ] . وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح{[29855]} المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم عز وجل في الدار الآخرة ، رؤية بالأبصار في عَرَصات القيامة ، وفي روضات الجنان الفاخرة .
وقد قال ابن جرير [ محمد بن عمار الرازي ]{[29856]} : حدثنا أبو معمر المنْقَريّ ، حدثنا عبد الوارث ابن سعيد ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن في قوله : { كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } قال : يكشف الحجاب ، فينظر إليه المؤمنون والكافرون ، ثم يحجب عنه الكافرون وينظر إليه المؤمنون . كُلّ يوم غدوة وعشية - أو كلاما هذا معناه .
القول في تأويل قوله تعالى : { كَلاّ إِنّهُمْ عَن رّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لّمَحْجُوبُونَ * ثُمّ إِنّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ * ثُمّ يُقَالُ هََذَا الّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ما الأمر كما يقول هؤلاء المكذّبون بيوم الدين ، من أن لهم عند الله زُلْفة ، إنهم يومئذٍ عن ربهم لمحجوبون ، فلا يرونه ، ولا يرون شيئا من كرامته يصل إليهم .
وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله : إنّهُمْ عَنْ رَبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ فقال بعضهم : معنى ذلك : إنهم محجوبون عن كرامته . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد مسلم ، عن خليد ، عن قتادة كَلاّ إنّهُمْ عَنْ رَبّهمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ هو لا ينظر إليهم ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم .
حدثني سعيد بن عمرو السكونيّ ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، قال : حدثنا جرير ، قال : ثني نمران أبو الحسن الذماري ، عن ابن أبي مليكة أنه كان يقول في هذه الاَية إنّهُم عَنْ رَبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ قال : المنّان ، والمختال ، والذي يقتطع أموال الناس بيمينه بالباطل .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إنهم محجوبون عن رؤية ربهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمار الرازيّ ، قال : حدثنا أبو معمر المنقريّ ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن في قوله : كَلاّ إنّهُمْ عَنْ رَبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ قال : يكشف الحجاب فينظر إليه المؤمنون كلّ يوم غُدْوة وعشية ، أو كلاما هذا معناه .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء القوم أنهم عن رؤيته محجوبون . ويُحتمل أن يكون مرادا به الحجاب عن كرامته ، وأن يكون مرادا به الحجاب عن ذلك كله ، ولا دلالة في الاَية تدلّ على أنه مراد بذلك الحجاب عن معنى منه دون معنى ، ولا خبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قامت حجته . فالصواب أن يقال : هم محجوبون عن رؤيته ، وعن كرامته ، إذ كان الخبر عاما ، لا دلالة على خصوصه .
- مكي: قال مالك رحمه الله، في هذا دليل على أن ثم قوما لا يحجبون عن الله وينظرون إليه.
- القرطبي: قال مالك بن أنس في هذه الآية: لما حجب أعداءه فلم يروه، تجلى لأوليائه حتى رأوه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ما الأمر كما يقول هؤلاء المكذّبون بيوم الدين، من أن لهم عند الله زُلْفة، إنهم يومئذٍ عن ربهم لمحجوبون، فلا يرونه، ولا يرون شيئا من كرامته يصل إليهم. وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله:"إنّهُمْ عَنْ رَبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ"؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: إنهم محجوبون عن كرامته...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنهم محجوبون عن رؤية ربهم...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء القوم أنهم عن رؤيته محجوبون. ويُحتمل أن يكون مرادا به الحجاب عن كرامته، وأن يكون مرادا به الحجاب عن ذلك كله، ولا دلالة في الآية تدلّ على أنه مراد بذلك الحجاب عن معنى منه دون معنى، ولا خبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قامت حجته. فالصواب أن يقال: هم محجوبون عن رؤيته، وعن كرامته، إذ كان الخبر عاما، لا دلالة على خصوصه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
اختلف في قوله: {يومئذ} فذكر أبو بكر الأصم أن هذا في الدنيا؛ يقول: إنهم حجبوا عن عبادة ربهم بما عبدوا غير الله تعالى، فصارت عبادتهم غير الله حجابا عن عبادته. وذكر أهل التفسير أن هذا في الآخرة؛ ثم منهم من يقول: إنهم حجبوا عن لقاء ربهم، وأوجبوا بهذا القول الرؤية للمؤمنين، ومنهم من يقول: هم محجوبون، أي عن كرامته التي أعدها لأوليائه وعن رحمته، فعوقبوا بالحجب عن ذلك جزاء لصنيعهم، لأنهم في الدنيا ضيعوا نعم الله تعالى، فلم يتقبلوها بالشكر، ولم يؤمنوا برسوله الذي بعثه رحمة للعالمين، فأبلسوا من رحمته وكرامته في الآخرة عقوبة لهم ومجازاة، وهو كقوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} [التوبة: 67] أي جعلهم كالشيء المنسي الذي لا يعبأ به، فعلى ما وجد منهم من المعاملة لآياته وحججه بتركهم الالتفات إليها عوملوا بمثله في الآخرة، وكقوله في آية أخرى: {قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا} [طه: 125]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وكونهم محجوبين عنه: تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم، لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين لديهم، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم...
قال مقاتل: معنى الآية أنهم بعد العرض والحساب، لا يرون ربهم، والمؤمنون يرون ربهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لقد حجبت قلوبهم المعاصي والآثام، حجبتها عن الإحساس بربها في الدنيا. وطمستها حتى أظلمت وعميت في الحياة.. فالنهاية الطبيعية والجزاء الوفاق في الآخرة أن يحرموا النظر إلى وجه الله الكريم، وأن يحال بينهم وبين هذه السعادة الكبرى، التي لا تتاح إلا لمن شفت روحه ورقت وصفت واستحقت أن تكشف الحجب بينها وبين ربها. ممن قال فيهم في سورة القيامة: (وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة).. وهذا الحجاب عن ربهم، عذاب فوق كل عذاب، وحرمان فوق كل حرمان. ونهاية بائسة لإنسان يستمد إنسانيته من مصدر واحد هو اتصاله بروح ربه الكريم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {كلاّ} الثانية تأكيد ل {كلا} الأولى زيادة في الردع ليصير توبيخاً...
جملة: {إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون} وما عطف عليها ابتدائية وقد اشتملت الجملة ومعطوفاها على أنواع ثلاثة من الويل وهي الإهانة، والعذاب، والتقريع مع التأييس من الخلاص من العذاب. فأما الإهانة فحجْبُهم عن ربهم، والحجب هو الستر، ويستعمل في المنع من الحضور لدى الملك ولدى سيد القوم،... وكلا المعنيين مراد هنا لأن المكذبين بيوم الدين لا يرون الله يوم القيامة حين يراه أهل الإيمان. ويوضح هذا المعنى قوله في حكاية أحوال الأبرار: {على الأرائك ينظرون} [المطففين: 23] وكذلك أيضاً لا يدخلون حضرة القدس قال تعالى: {إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء} [الأعراف: 40]، وليكون الكلام مفيداً للمعنيين قيل: « عن ربهم لمحجوبون» دون أن يقال: عن رؤية ربهم، أو عن وجه ربهم كما قال في آية آل عمران (77): {ولا ينظر إليهم يوم القيامة}...
الران هو الحجاب الذي يأتي على القلب، فكأن الذي لا يريد أن يحجب عن ربه لا يحجب قلبه، ومن يحجب قلبه فسيحجب عن ربه، لأن القلب هو محل الاعتقاد واليقين، فعندما تحجبه بالإثم والاعتداء والمعاصي فإنك تحجب عن ربك.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ويستمر البيان القرآني: (كلاّ إنّهم عن ربّهم يومئذ لمحجوبون). وهو أشدّ ما سيعاقبون به، مثلما منزلة اللقاء باللّه ودرجة القرب منه هي من أعظم نعم الأبرار والصالحين وأكثرها لذةً واستئناساً. «كلاّ»: عادةً ما تستعمل لنفي ما قيل سابقاً، وللمفسرين أقوال في تفسيرها: القول الأوّل: إنّها تأكيد ل «كلاّ» المتقدمة في الآية السابقة، أي: يوم القيامة ليس بأُسطورة كما يزعمون. والقول الثّاني: «كلاّ» بمعنى لا يمكن إزالة الرين الذي فقأ البصيرة في قلوبهم، فهم محرومون من رؤية جمال الحقّ في هذا العالم وفي عالم الآخرة أيضاً...