{ قل } يا محمد لمشركي مكة الذين يتمنون هلاكك ، { أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي } من المؤمنين ، { أو رحمنا } فأبقانا وأخر آجالنا ، { فمن يجير الكافرين من عذاب أليم } فإنه واقع بهم لا محالة . وقيل : معناه أرأيتم إن أهلكني الله فعذبني ومن معي أو رحمنا فغفر لنا ، فنحن -مع إيماننا- خائفون أن يهلكنا بذنوبنا ، لأن حكمه نافذ فينا ، { فمن يجير الكافرين } فمن يجيركم ويمنعكم من عذابه وأنتم كافرون ؟ وهذا معنى قول ابن عباس .
ولما كان المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم ، [ الذين ] يردون دعوته ، ينتظرون هلاكه ، ويتربصون به ريب المنون ، أمره الله أن يقول لهم : أنتم{[1184]} وإن حصلت لكم أمانيكم{[1185]} وأهلكني الله ومن معي ، فليس ذلك بنافع لكم شيئًا ، لأنكم كفرتم بآيات الله ، واستحققتم العذاب ، فمن يجيركم من عذاب أليم قد تحتم وقوعه بكم ؟ فإذًا ، تعبكم وحرصكم على هلاكي غير مفيد ولا مجد لكم شيئًا . ومن قولهم ، إنهم على هدى ، والرسول على ضلال ، أعادوا في ذلك وأبدوا ، وجادلوا عليه وقاتلوا ،
ولقد كانوا يتربصون بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] والحفنة المؤمنة التي معه أن يهلكوا فيستريحوا منهم ؛ وكانوا يتواصون بينهم بالصبر عليه حتى يوافيه الأجل ، فتسكن هذه الزوبعة التي أثارتها الدعوة في صفوفهم . كما كانوا يتبجحون أحيانا فيزعمون أن الله سيهلك محمدا ومن معه لأنهم ضالون ، ولأنهم يكذبون على الله فيما يقولون ! فهنا أمام مشهد الحشر والجزاء ، ينبههم إلى أن أمنيتهم حتى لو تحققت لا تعصمهم هم من عاقبة الكفر والضلال . فأولى لهم أن يتدبروا أمرهم قبل هذا الموعد الذي واجههم به كأنه واقع بهم :
( قل : أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا ، فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ? ) . .
وهو سؤال يردهم إلى تدبر حالهم ، والتفكير في شأنهم ، وهو الأولى ! فما ينفعهم أن تتحقق أمانيهم فيهلك الله النبي ومن معه - كما لا ينقذهم بطبيعة الحال أن يرحم الله نبيه ومن معه . والله باق لا يموت . وهو الذي ذرأهم في الأرض وإليه يحشرون . .
ولكنه لا يقول لهم : فمن يجيركم من عذاب أليم ? ولا ينص على أنهم كافرون . إنما يلوح لهم بالعذاب الذي ينتظر الكافرين : ( فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ) . . وهو أسلوب في الدعوة حكيم ، يخوفهم من ناحية ، ويدع لهم فرصة للتراجع عن موقفهم من ناحية . فلو جابههم بأنهم كافرون ، وأنه لا مفر لهم من العذاب الأليم . . فربما جهلوا وحمقوا وأخذتهم العزة بالإثم أمام الاتهام المباشر والتهديد .
ففي بعض الحالات يكون أسلوب التلميح أفعل في النفس من أسلوب التصريح !
يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الجاحدين لنعمه : { أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : خَلِّصوا أنفسكم ، فإنه لا منقذ لكم من الله إلا التوبة والإنابة ، والرجوع إلى دينه ، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنَّكَال ، فسواء عذبنا الله أو رحمنا ، فلا مناص لكم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللّهُ وَمَن مّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد للمشركين من قومك : أرأَيْتُمْ أيها الناس إنْ أهْلَكَنِيَ اللّهُ فأماتني وَمَنْ مَعي ، أوْ رَحِمَنَا فأخرّ في آجالنا ، فَمَنْ يُجِيرُ الكافِرِينَ بالله مِنْ عَذَاب موجع مؤلم ، وذلك عذاب النار . يقول : ليس ينجي الكفار من عذاب الله موتُنا وحياتنا ، فلا حاجة بكم إلى أن تستعجلوا قيام الساعة ، ونزول العذاب ، فإن ذلك غير نافعكم ، بل ذلك بلاء عليكم عظيم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل} لكفار مكة يا محمد: {أرأيتم إن أهلكني الله} يقول: إن عذبني الله {ومن معي} من المؤمنين {أو رحمنا} فلم يعذبنا، وأنعم علينا {فمن يجير الكافرين} يقول: فمن يؤمنكم أنتم {من عذاب أليم} يعني وجيع...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قُلْ "يا محمد للمشركين من قومك: "أرأَيْتُمْ" أيها الناس "إنْ أهْلَكَنِيَ اللّهُ" فأماتني "وَمَنْ مَعي أوْ رَحِمَنَا" فأخرّ في آجالنا، "فَمَنْ يُجِيرُ الكافِرِينَ" بالله "مِنْ عَذَاب" موجع مؤلم، وذلك عذاب النار. يقول: ليس ينجي الكفار من عذاب الله موتُنا وحياتنا، فلا حاجة بكم إلى أن تستعجلوا قيام الساعة، ونزول العذاب، فإن ذلك غير نافعكم، بل ذلك بلاء عليكم عظيم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قيل إن الكفار كانوا يتمنون موت النبي وموت أصحابه، فقيل لهم: (أرأيتم إن أهلكني الله) بإماتتي وإماتة أصحابي، فما الذى ينفعكم ذلك في النجاة من عذاب أليم. وقل لهم (فمن) الذي (يجير الكافرين من عذاب أليم) حتى لا يعذبوا ولا يعاقبوا، فلا يمكنهم الإحالة على من يجيرهم من الله ويخلصهم من عذابه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كان كفار مكة يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك، فأمر بأن يقول لهم: نحن مؤمنون متربصون لإحدى الحسنيين: إما أن نهلك كما تتمنون فننقلب إلى الجنة، أو نرحم بالنصرة والإدالة للإسلام كما نرجو، فأنتم ما تصنعون؟ من يجيركم -وأنتم كافرون- من عذاب النار؟ لا بدّ لكم منه، يعني: إنكم تطلبون لنا الهلاك الذي هو استعجال للفوز والسعادة، وأنتم في أمر هو الهلاك الذي لا هلاك بعده، وأنتم غافلون لا تطلبون الخلاص منه.
أو إن أهلكنا الله بالموت فمن يجيركم بعد موت هداتكم، والآخذين بحجزكم من النار، وإن رحمنا بالإمهال والغلبة عليكم وقتلكم فمن يجيركم؛ فإنّ المقتول على أيدينا هالك.
أو إن أهلكنا الله في الآخرة بذنوبنا ونحن مسلمون، فمن يجير الكافرين وهم أولى بالهلاك لكفرهم؛ وإن رحمنا بالإيمان فيمن يجير من لا إيمان له.
...فإذا علمتم أن لا مجير لكم فهلا تمسكتم بما يخلصكم من العذاب وهو العلم بالتوحيد والنبوة والبعث...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان من المعلوم أن من نهى آخر عن هواه وبالغ في ذلك، أبغضه ذلك الناهي وتمنى هلاكه، فكيف إذا والى عليه الإنذار والتخويف بما لا يصل إلى دركه عقله، ولا يرى له مقدمة بتحققها، وكان الكفار يسعون في هلاك النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه كل سعي، وكان هلاك النذير إنما ينفع المنذر على تقدير نجاته من هول ما كان يحذره منه النذير، أمره سبحانه أن يذكرهم بهذا لينظروا في ذلك المتوعد به، فإن كان ممكناً سعوا في الخلاص مما قد يكون منه من العذاب، وسلكوا في الهرب منه مسلكاً سهلاً بعيداً من سوء الانقلاب، ودخلوا إلى فسيح المانع منه من أوسع باب، أو كفوا عن السعي في هلاك النذير، وطووا ما مدوا له من الأسباب، ليدلهم إذا كان صادقاً على شيء يحميهم، أو يخفف عنهم ذلك المصاب، فقال منبهاً على شدة الحذر من مكر الله، وعدم الاغترار به للمؤمن الطائع، لعلمه أنه لا يقدر أن يقدر الله حق قدره، فكيف بالعاصي فضلاً عن الكافر، مكرراً للأمر بالقول تنبيهاً على أن كل جملة صدرت به، كافية في الدلالة على مقصود السورة، وعائدة إليه لما اشتملت عليه من باهر القدرة ووافر العظمة: {قل} أي يا أفضل الخلق كلهم وأشرفهم وأعظمهم وأتقاهم لهؤلاء الذين طال تضجرهم منك، وهم يتمنون هلاكك حسداً منهم، وعمى في قلوبهم، وبعداً وطرداً، قد استحكم واستدار بهم، ذلك تقدير العزيز العليم {أرءيتم} أي أخبروني خبراً أنتم في الوثوق به على ما هو كالرؤية. ولما كانوا غير عالمين بعاقبة الأمر في هلاكه ومن معه بما يقصدونهم به، حذرهم عاقبة ذلك بالتعبير بأداة الشك، وإسناد الإهلاك إلى الله، معبراً عن الاسم الدال على تناهي العظمة إلى حد لا يدع لغيره منها شيئاً، إعلاماً بأنه على القطع بأنه لا شيء في أيديهم، فهو لا يخافهم بوجه فقال: {إن أهلكني} أي أماتني بعذاب أو غيره {الله} أي الذي له من صفات الجلال والإكرام ما يعصم به وليه ويقصم به عدوه، {ومن معي} أي من المؤمنين والمناصرين رضي الله عنهم أجمعين بغضبه علينا، مع ما لنا من الأسباب بالطاعة بالأعمال الصالحة، التي رتب سبحانه عليها الفوز والنجاة، حتى لا يبقى أحد ممن يكدر عليكم بالمنع من الهوى القائد إلى القوى، والحث على العقل الضامن للنجاة. {أو رحمنا} بالنصرة وإظهار الإسلام كما نرجو، فأنجانا بذلك من كل سوء، ووقانا كل محذور، وأنالنا كل سرور... {فمن} وكان ظاهر الحال يقتضي: يجيركم مع طلبكم المسببات من الفوز والنجاة بغير أسباب، بل بأسباب منافية للنجاة، جالبة للعذاب، فوضع الظاهر موضع الضمير تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف، واستعطافاً لهم إلى إيقاع الإيمان والرجوع عن الكفران، فقال: {يجير الكافرين} أي العريقين في الكفر، بأن يدفع عنهم ما يدفع الجار عن جاره {من عذاب أليم *} يصيبهم به الذي هم عالمون بأنه لا شيء إلا بيده، وإلا لنجى أحد من الموت الذي خلقه وقدره بين عباده، جزاء على ما كانوا يؤلمون من يدعوهم إليه وينصحهم فيه، فإذا كان لا ينجيهم من عذابه شيء، سواء متنا أو بقينا، فالذي ينبغي لهم إن كانوا عقلاء، السعي فيما ينجي من عذابه، لا السعي في إهلاك من هو ساع في خلاصهم من العذاب، ولا يقدرون على إهلاكه أصلاً، إلا بتقدير الذي أمره بإنذارهم.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
ووضعُ الكافرينَ موضعَ ضميرِهِم، للتسجيلِ عليهِم بالكفرِ، وتعليلِ نَفي الإنجاءِ بهِ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد كانوا يتربصون بالنبي [صلى الله عليه وسلم] والحفنة المؤمنة التي معه أن يهلكوا فيستريحوا منهم؛ وكانوا يتواصون بينهم بالصبر عليه حتى يوافيه الأجل، فتسكن هذه الزوبعة التي أثارتها الدعوة في صفوفهم. كما كانوا يتبجحون أحيانا فيزعمون أن الله سيهلك محمدا ومن معه لأنهم ضالون، ولأنهم يكذبون على الله فيما يقولون! فهنا أمام مشهد الحشر والجزاء، ينبههم إلى أن أمنيتهم حتى لو تحققت لا تعصمهم هم من عاقبة الكفر والضلال. فأولى لهم أن يتدبروا أمرهم قبل هذا الموعد الذي واجههم به كأنه واقع بهم: (قل: أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا، فمن يجير الكافرين من عذاب أليم؟).. وهو سؤال يردهم إلى تدبر حالهم، والتفكير في شأنهم، وهو الأولى! فما ينفعهم أن تتحقق أمانيهم فيهلك الله النبي ومن معه -كما لا ينقذهم بطبيعة الحال أن يرحم الله نبيه ومن معه. والله باق لا يموت. وهو الذي ذرأهم في الأرض وإليه يحشرون.. ولكنه لا يقول لهم: فمن يجيركم من عذاب أليم؟ ولا ينص على أنهم كافرون. إنما يلوح لهم بالعذاب الذي ينتظر الكافرين: (فمن يجير الكافرين من عذاب أليم).. وهو أسلوب في الدعوة حكيم، يخوفهم من ناحية، ويدع لهم فرصة للتراجع عن موقفهم من ناحية. فلو جابههم بأنهم كافرون، وأنه لا مفر لهم من العذاب الأليم.. فربما جهلوا وحمقوا وأخذتهم العزة بالإثم أمام الاتهام المباشر والتهديد. ففي بعض الحالات يكون أسلوب التلميح أفعل في النفس من أسلوب التصريح!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا تكرير ثان لفعل:"قل": {قل هو الذي أنشأكم} [الملك: 23]. كان من بَذاءة المشركين أن يجهروا بتمني هلاك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهلاك من معه من المسلمين، وقد حكى القرآن عنهم {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} [الطور: 30] وحكى عن بعضهم {ويَتربص بكم الدوائر} [التوبة: 98]، وكانوا يتآمرون على قتله، قال تعالى: {وإذ يَمكر بك الذين كفروا ليُثبتوك أو يقتلوك} [الأنفال: 30]، فأمره الله بأن يعرفهم حقيقةً تدحض أمانيَّهم، وهي أن موت أحد أو حياته لا يغني عن غيره ما جرَه إليه عمله، وقد جرَّت إليهم أعمالهم غضب الله ووعيده فهو نائلهم حَيي الرسول صلى الله عليه وسلم أو بادره المنون، قال تعالى: {فإمَّا نذهبَنَّ بك فإنّا منهم منتقمون أو نُرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون} [الزخرف: 41، 42] وقال: {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مِتَّ فهُم الخالدون} [الأنبياء: 34] وقال: {إنك مَيت وإنهم ميتون} [الزمر: 30] أي المشركين، وقد تكرر هذا المعنى وما يقاربه في القرآن.