الآية 28 وقوله تعالى : { قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن مّعي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم } في هذه الآية دلالة أن في حكمة الله مشيئة المغفرة والعفو{[21758]} لمن ارتكب غير الكفر من الزّلات ، وإيجاب العقاب على من اعتقد الكفر والتزمه ، وأن ليس في الحكمة عفو مثله من العقوبة ، لأنه قال : { أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا } فأثبت فيه إخبار الإهلاك ومشيئة الرحمة والمغفرة .
ومعلوم بأنه يهلك ومن معه ، أو يرحم ، عندما يبتلى بالزلات ، وكذلك قال : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 و 116 ] فجعل لنفسه مشيئة المغفرة لمن يتوقى الكفر ، وحكم بإيجاب العقاب على من أشرك به .
والذي يدل على أن الحكمة توجب ما ذكرنا ، أن الكفر لنفسه قبيح لا يحتمل الإطلاق ورفع الحرمة لما فيه من السفه ، لأن من رضي بشتم نفسه فهو سفيه ، فعلى ذلك عقوبته ، لا تحتمل في الحكمة رفعها والعفو عنها ، أو لما كان الكفر لا يحتمل الإباحة ورفع العقوبة ؛ والإفضال بالمغفرة يخرج مخرج الإباحة ، كذلك لم يجز القول فيه بالمغفرة والعفو ، وسائر المآثم جائز رفع الحرمة عنها .
ولأن الكافر اختار عداوة الله تعالى وكفران نعمه ، والذي اعتقد الإسلام اختار ولايته ، والحكمة توجب التفرقة بين العدو والولي ، وفي العفو عنه وإكرامه بالإحسان تسوية بين الولي والعدو ، وفي ذلك تضييع الحكمة ، ولأن الكافر في نفسه [ يظن أنه ]{[21759]} على الحق والصواب ، وغيره على الباطل والضلال ، وأنه غير مستوجب العذاب ، يدل على ذلك حكاية عن أهل الكفر إذ{[21760]} قالوا : { نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين } [ سبإ : 35 ] .
فالله تعالى إذا أنعم عليه بالعفو ، وتطوّل عليه بالإحسان ، لم يقع ذلك عنده موقع التجاوز والغفران ، بل يقع عنده أنه إنما أحسن إليه لاستجابة الإحسان ، وعفا عنه لما يسبق منه ما يستوجب به العقاب .
وإذا كان كذلك أدى ذلك إلى تصنيع الإحسان وتصنيع العفو وإبطال النعمة .
فثبت أن الحكمة لا توجب العفو عن الكافر ، إذ يحصل العفو في غير موضعه .
وأما أهل الإسلام الذين سبقت منهم الأجرام ، فقد علموا أن الذي سبق منهم زلات ومآثم ، وأن العذاب قد لزمهم ، وأنهم مستوجبون العقاب . فإذا عفا عنهم علموا أنهم إنما نالوا العفو بفضل الله تعالى ، فيقع الإحسان موقعه .
ولأن من أحسن إلى عدوه في الشاهد ، لم يقصد إحسانه إليه قصد استدراجه والمكر به ، فهو إنما يحسن إليه لما يخاف ناحيته ، ويخرج فعله مخرج التذلل له .
فلو لم يؤاخذ الله الكافر بما تعاطى من الكفر ، بل أحسن إليه من غير تبعة عليه ، خرج عفوه وإحسانه إليه مخرج الخوف وإظهار التذلل ، والله تعالى يجل عن هذين الوجهين .
فثبت أن الحكمة توجب القول بالتخليد ، وتمنع القول بالعفو ، والله أعلم .
وفي قوله : { قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا } دلالة أن لله تعالى أن يعذب على الصغائر ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع من سبقه من الأنبياء عليهم السلام قد عصموا عن ارتكاب الكبائر ، فلا يجوز أن يرتكبوا الكبائر ، فيهلكوا لأجلها .
فثبت أنهم لو أهلكوا [ لأهلكوا ]{[21761]} بالصغائر ، فلو لم يكن لله تعالى أن يعذب أهل الصغائر ، لصار هو بإهلاكه إياه بمن معه جائرا ظالما ، وجل الله تعالى عن الوصف بالجور ، وقال الله تعالى : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } [ الفتح : 2 ] .
ثم الحق أن يقال : إن جميع الخوارج والمعتزلة لا يجوز أن يغفر الله تعالى لهم بارتكابهم الكبائر [ وإنما هو الرجاء الذي ]{[21762]} ذكرنا لغيرهم من منتحلي الإسلام ، لأنهم يقولون : لا يجوز أن يغفر الله تعالى لأهل الكبائر ، ولا أن يطّوّل عليهم بالعفو ، بل حق أمثالهم أن يخلدوا في النار أبد الآبدين .
وإذا كان هذا هو الحكم فيهم ، ولله تعالى إن غفر لهم ، ومنّ عليهم بالعفو ، وقع عندهم أنه إنما عفا عنهم لأن الذي ارتكبوا من المآثم لم تكن كبائر ، بل كانت صغائر ؛ إذ لا تجوز المغفرة عن الكبائر ، فيحصل العفو في غير موضعه والإحسان في غير موقعه . وأما غيرهم من منتحلي الإسلام فهم يرجون عفوه وسعة رحمته في كل أيامهم . فإذا تفضل عليهم بالمغفرة وقع العفو عندهم موقعه ، فلا يكون فيه تضييع الإحسان { سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا } [ الإسراء : 43 ] .
ثم قوله تعالى : { قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن مّعي } بما سبق من الأجرام والزلات { أو رحمنا } بما سبق من الإيمان به والانقياد لأمره والخضوع لطاعته { فمن يجير الكافرين } من عذابه ، ولم يسبق منهم إلى ربهم حسنة يرحمون لأجلها ، ولا طاعة يستوجبون الغفران بها ؟ أو فمن يجيرهم من عذاب الله تعالى إن حل بهم ؟ فكأنه قيل له : قل لهم هذا لأنهم كانوا يعبدون الأصنام ، رجاء أن تنصرهم من العذاب الأليم . فيقول : لا تجيرهم تلك الأصنام من العذاب الأليم ، والله أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.