{ 41 - 44 } { وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا * أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا }
أي : وإذا رآك يا محمد هؤلاء المكذبون لك المعاندون لآيات [ الله ]{[578]} المستكبرون في الأرض استهزءوا بك واحتقروك وقالوا -على وجه الاحتقار والاستصغار- { أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا } أي : غير مناسب ولا لائق أن يبعث الله هذا الرجل ، وهذا من شدة ظلمهم وعنادهم وقلبهم الحقائق فإن كلامهم هذا يفهم أن الرسول -حاشاه- في غاية الخسة والحقارة وأنه لو كانت الرسالة لغيره لكان أنسب .
{ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } فهذا الكلام لا يصدر إلا من أجهل الناس وأضلهم ، أو من أعظمهم عنادا وهو متجاهل ، قصده ترويج ما معه من الباطل بالقدح بالحق وبمن جاء به ، وإلا فمن تدبر أحوال محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وجده رجل العالم وهمامهم ومقدمهم في العقل والعلم واللب والرزانة ، ومكارم الأخلاق ومحاسن الشيم والعفة والشجاعة والكرم وكل خلق فاضل ، وأن المحتقر له والشانئ له قد جمع من السفه والجهل والضلال والتناقض والظلم والعدوان ما لا يجمعه غيره ، وحسبه جهلا وضلالا أن يقدح بهذا الرسول العظيم والهمام الكريم .
وبعد هذا الاستعراض السريع يجيء ذكر استهزائهم برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقد سبقه تطاولهم على ربهم ، واعتراضهم على طريقة تنزيل القرآن . وسبقه كذلك مشاهدهم المفجعة في يوم الحشر ، ومصارع المكذبين أمثالهم في هذه الأرض . . كل أولئك تطييبا لقلب الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] قبل ذكر استهزائهم به وتوقحهم عليها . ثم يعقب عليه بتهديدهم وتحقيرهم وتنزيلهم إلى أحط من درك الحيوان .
( وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا . أهذا الذي بعث الله رسولا ? إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها ، وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا . أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ? أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ? إن هم إلا كالأنعام ، بل هم أضل سبيلا ) .
ولقد كان محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ملء السمع والبصر بين قومه قبل بعثته . فقد كان عندهم ذا مكانة من بيته وهو من ذروة بني هاشم وهم ذروة قريش . وكان عندهم ذا مكانة من خلقه وهو الملقب بينهم بالأمين . ولقد ارتضوا حكومته بينهم في وضع الحجر الأسود قبل البعثة بزمن طويل . ويوم دعاهم على الصفا فسألهم أيصدقونه لو أخبرهم أن خيلا بسفح هذا الجبل قالوا : نعم أنت عندنا غير متهم .
ولكنهم بعد البعثة وبعد أن جاءهم بهذا القرآن العظيم راحوا يهزأون به ويقولون : ( أهذا الذي بعث الله رسولا ? )وهي قولة ساخرة مستنكرة . . أكان ذلك عن اقتناع منهم بأن شخصه الكريم يستحق منهم هذه السخرية ، وأن ما جاءهم به يستحق منهم هذا الاستهزاء ? كلا . إنما كانت تلك خطة مدبرة من كبراء قريش للتصغير من أثر شخصيته العظيمة ومن أثر هذا القرآن الذي لا يقاوم . وكانت وسيلة من وسائل مقاومة الدعوة الجديدة التي تهددهم في مراكزهم الاجتماعية وأوضاعهم الاقتصادية ، وتجردهم من الأوهام والخرافات الاعتقادية التي تقوم عليها تلك المراكز وهذه الأوضاع .
ولقد كانوا يعقدون المؤتمرات لتدبير المؤامرات المحبوكة ، ويتفقون فيها على مثل هذه الوسيلة وهم يعلمون كذبهم فيها عن يقين :
روى ابن إسحاق أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش - وكان ذا سن فيهم - وقد حضر الموسم - موسم الحج - فقال لهم : يا معشر قريش : إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ، ويرد قولكم بعضه بعضا . قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس ، فقل وأقم لنا رأيا نقول به . قال : بل أنتم فقولوا أسمع . قالوا : نقول كاهن . قال لا والله ما هو بكاهن . لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه قالوا : فنقول : إنه مجنون قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته . قالوا : فنقول شاعر قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر . قالوا : فنقول ساحر . قال ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم . قالوا : فما تقول يا أبا عبد شمس ? قال : والله إن لقوله طلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا : ساحر جاء يقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجه ، وبين المرء وعشيرته . . فتفرقوا عنه بذلك . فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم ، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا لهم أمره .
فهذا مثل من الكيد والتدبير يشي بحيرة القوم في المؤامرات ضد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومعرفتهم بحقيقته في الوقت ذاته . فما كان اتخاذهم إياه هزوا ، وقولهم ساخرين : ( أهذا الذي بعث الله رسولا ? )بصورة الاستغراب والاستنكار والزراية إلا طرفا من تلك المؤامرات المدبرة لا ينبعث عن حقيقة شعورية في نفوسهم ، إنما يتخذ وسيلة للحط من قدره في أعين الجماهير ، التي يحرص سادة قريش على استبقائها تحت وصايتهم الدينية ، استبقاء للمراكز الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية التي يتمتعون بها في ظل تلك الوصاية ! شأن قريش في هذا شأن أعداء دعوات الحق ودعاتها في كل زمان وفي كل مكان .
يخبر تعالى عن استهزاء المشركين بالرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، إذا رأوه ، كما قال : { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ } [ الأنبياء : 36 ] يعنونه بالعيب والنقص ، وقال هاهنا : { وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا } ؟ أي : على سبيل التنقص{[21538]} والازدراء - قبَّحهم الله - كما قال : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } [ الرعد : 32 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً أَهََذَا الّذِي بَعَثَ اللّهُ رَسُولاً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإذا رآك هؤلاء المشركون الذين قصصت عليك قصصهم إنْ يَتّخِذُونَكَ إلاّ هُزُوا يقول : ما يتخذونك إلا سخرية يسخرون منك ، يقولون : أهذا الّذِي بَعثَ اللّهُ إلينا رَسُولاً من بين خلقه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.