في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{وَإِذَا رَأَوۡكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَٰذَا ٱلَّذِي بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولًا} (41)

21

وبعد هذا الاستعراض السريع يجيء ذكر استهزائهم برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقد سبقه تطاولهم على ربهم ، واعتراضهم على طريقة تنزيل القرآن . وسبقه كذلك مشاهدهم المفجعة في يوم الحشر ، ومصارع المكذبين أمثالهم في هذه الأرض . . كل أولئك تطييبا لقلب الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] قبل ذكر استهزائهم به وتوقحهم عليها . ثم يعقب عليه بتهديدهم وتحقيرهم وتنزيلهم إلى أحط من درك الحيوان .

( وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا . أهذا الذي بعث الله رسولا ? إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها ، وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا . أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ? أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ? إن هم إلا كالأنعام ، بل هم أضل سبيلا ) .

ولقد كان محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ملء السمع والبصر بين قومه قبل بعثته . فقد كان عندهم ذا مكانة من بيته وهو من ذروة بني هاشم وهم ذروة قريش . وكان عندهم ذا مكانة من خلقه وهو الملقب بينهم بالأمين . ولقد ارتضوا حكومته بينهم في وضع الحجر الأسود قبل البعثة بزمن طويل . ويوم دعاهم على الصفا فسألهم أيصدقونه لو أخبرهم أن خيلا بسفح هذا الجبل قالوا : نعم أنت عندنا غير متهم .

ولكنهم بعد البعثة وبعد أن جاءهم بهذا القرآن العظيم راحوا يهزأون به ويقولون : ( أهذا الذي بعث الله رسولا ? )وهي قولة ساخرة مستنكرة . . أكان ذلك عن اقتناع منهم بأن شخصه الكريم يستحق منهم هذه السخرية ، وأن ما جاءهم به يستحق منهم هذا الاستهزاء ? كلا . إنما كانت تلك خطة مدبرة من كبراء قريش للتصغير من أثر شخصيته العظيمة ومن أثر هذا القرآن الذي لا يقاوم . وكانت وسيلة من وسائل مقاومة الدعوة الجديدة التي تهددهم في مراكزهم الاجتماعية وأوضاعهم الاقتصادية ، وتجردهم من الأوهام والخرافات الاعتقادية التي تقوم عليها تلك المراكز وهذه الأوضاع .

ولقد كانوا يعقدون المؤتمرات لتدبير المؤامرات المحبوكة ، ويتفقون فيها على مثل هذه الوسيلة وهم يعلمون كذبهم فيها عن يقين :

روى ابن إسحاق أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش - وكان ذا سن فيهم - وقد حضر الموسم - موسم الحج - فقال لهم : يا معشر قريش : إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ، ويرد قولكم بعضه بعضا . قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس ، فقل وأقم لنا رأيا نقول به . قال : بل أنتم فقولوا أسمع . قالوا : نقول كاهن . قال لا والله ما هو بكاهن . لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه قالوا : فنقول : إنه مجنون قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته . قالوا : فنقول شاعر قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر . قالوا : فنقول ساحر . قال ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم . قالوا : فما تقول يا أبا عبد شمس ? قال : والله إن لقوله طلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا : ساحر جاء يقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجه ، وبين المرء وعشيرته . . فتفرقوا عنه بذلك . فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم ، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا لهم أمره .

فهذا مثل من الكيد والتدبير يشي بحيرة القوم في المؤامرات ضد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومعرفتهم بحقيقته في الوقت ذاته . فما كان اتخاذهم إياه هزوا ، وقولهم ساخرين : ( أهذا الذي بعث الله رسولا ? )بصورة الاستغراب والاستنكار والزراية إلا طرفا من تلك المؤامرات المدبرة لا ينبعث عن حقيقة شعورية في نفوسهم ، إنما يتخذ وسيلة للحط من قدره في أعين الجماهير ، التي يحرص سادة قريش على استبقائها تحت وصايتهم الدينية ، استبقاء للمراكز الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية التي يتمتعون بها في ظل تلك الوصاية ! شأن قريش في هذا شأن أعداء دعوات الحق ودعاتها في كل زمان وفي كل مكان .