وبعد فقد كانت اللفتة الأولى إلى معرض الأرض ؛ وكانت اللفتة الثانية إلى معرض النفس . ثم تلتهما في السورة لفتة إلى معرض الغيب العلوي المطوي ، حيث الرزق المقسوم والحظ المرسوم :
( وفي السماء رزقكم وما توعدون ) . .
وهي لفتة عجيبة . فمع أن أسباب الرزق الظاهرة قائمة في الأرض ، حيث يكد فيها الإنسان ويجهد ، وينتظر من ورائها الرزق والنصيب . فإن القرآن يرد بصر الإنسان ونفسه إلى السماء . إلى الغيب . إلى الله . ليتطلع هناك إلى الرزق المقسوم والحظ المرسوم . أما الأرض وما فيها من أسباب الرزق الظاهرة ، فهي آيات للموقنين . آيات ترد القلب إلى الله ليتطلع إلى الرزق من فضله ؛ ويتخلص من أثقال الأرض وأوهاق الحرص ، والأسباب الظاهرة للرزق ، فلا يدعها تحول بينه وبين التطلع إلى المصدر الأول الذي أنشأ هذه الأسباب .
والقلب المؤمن يدرك هذه اللفتة على حقيقتها ؛ ويفهمها على وضعها ؛ ويعرف أن المقصود بها ليس هو إهمال الأرض وأسبابها . فهو مكلف بالخلافة فيها وتعميرها . إنما المقصود هو ألا يعلق نفسه بها ، وألا يغفل عن الله في عمارتها . ليعمل في الأرض وهو يتطلع إلى السماء . وليأخذ بالأسباب وهو يستيقن أنها ليست هي التي ترزقه ، فرزقه مقدر في السماء ، وما وعده الله لا بد أن يكون .
بذلك ينطلق قلبه من إسار الأسباب الظاهرة في الأرض ؛ بل يرف بأجنحة من هذه الأسباب إلى ملكوت السماوات . حين يرى في الأسباب آيات تدله على خالق الأسباب ويعيش موصولا قلبه بالسماء ، وقدماه ثابتتان على الأرض . فهكذا يريد الله لهذا الإنسان . هكذا يريد الله لذلك المخلوق الذي جبله من الطين ونفخ فيه من روحه فإذا هو مفضل على كثير من العالمين .
والإيمان هو الوسيلة لتحقيق ذلك الوضع الذي يكون فيه الإنسان في أفضل حالاته . لأنه يكون حينئذ في الحالة التي أنشأه الله لها . فطرة الله التي فطر الناس عليها . قبل أن يتناولها الفساد والانحراف . .
وقوله : وفي السّماءِ رِزْقُكُمْ يقول تعالى ذكره : وفي السماء : المطر والثلج اللذان بهما تخرج الأرض رزقكم ، وقوتكم من الطعام والثمار وغير ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا النضر ، قال : حدثنا جُوَيبر ، عن الضحاك ، في قوله : وفي السّماءِ رِزْقُكُمْ قال : المطر .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله : وفي السماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ قال : الثلج ، وكلّ عين ذائبة من الثلج لا تنقص .
حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الكريم ، عن الحسن ، قال : في السحاب فيه والله رزقكم ، ولكنكم تُحْرَمونه بخطاياكم وأعمالكم .
قال : أخبرنا سفيان ، عن إسماعيل بن أمية ، قال : أحسبه أو غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً ومطروا ، يقول : ومطرنا ببعض عثانين الأسد ، فقال : «كَذَبْتَ ، بَلْ هُوَ رِزْقُ اللّهِ » .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن مجاهد وفي السّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ قال : رزقكم المطر .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان وفي السّماءِ رِزْقُكُمْ قال : رزقكم المطر .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ومن عند الله الذي في السماء رزقكم ، وممن تأوّله كذلك واصل الأحدب .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا هارون بن المُغيرة من أهل الرأي ، عن سفيان الثوري ، قال : قرأ واصل الأحدب هذه الاَية وفي السّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ فقال : ألا إن رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض ، فدخل خرِبة فمكث ثلاثا لا يصيب شيئا ، فلما كان اليوم الثالث إذا هو دوخلّة رطب ، وكان له أخ أحسن نية منه ، فدخل معه ، فصارتا دوخلّتين ، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرّق الموت بينهما .
واختلف أهل التأويل في تأويل ، قوله : وَما تُوعَدُونَ فقال بعضهم : معنى ذلك : وما توعدون من خير ، أو شرّ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن مجاهد وَما تُوعَدُونَ قال : وما توعدون من خير أو شرّ .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وفي السّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ يقول : الجنة في السماء ، وما توعدون من خير أو شرّ .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما توعدون من الجنة والنار . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا النضر ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : وَما تُوعَدُونَ قال : الجنة والنار .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان وَما تُوعَدُونَ من الجنة .
وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي ، القول الذي قاله مجاهد ، لأن الله عمّ الخبر بقوله : وَما تُوعَدُونَ عن كلّ ما وعدنا من خير أو شرّ ، ولم يخصص بذلك بعضا دون بعض ، فهو على عمومه كما عمه الله جلّ ثناؤه .
وقوله تعالى : { وفي السماء رزقكم } . قال الضحاك وابن جبير : أراد المطر والثلج . وقال واصل الأحدب ومجاهد : أراد القضاء والقدر ، أي الرزق عند الله يأتي به كيف يشاء ، لا رب غيره . وقرأ ابن محيصن «وفي السماء رازقكم » .
و : { توعدون } يحتمل أن يكون من الوعد ، ويحتمل أن يكون من الوعيد ، والكل في السماء . قال الضحاك المراد : من الجنة والنار . وقال مجاهد المراد : الخير والشر . وقال ابن سيرين المراد : الساعة .
بعد أن ذكر دلائل الأرض ودلائل الأنفس التي هم من علائِق الأرض عُطف ذكر السماء للمناسبة ، وتمهيداً للقَسم الذي بعده بقوله : { فوربِّ السماء والأرض إنه لحق } [ الذاريات : 23 ] . ولما في السماء من آية المطر الذي به تنبت الأرض بعد الجفاف ، فالمعنى : وفي السماء آية المطر ، فعدل عن ذكر المطر إلى الرزق إدماجاً للامتنان في الاستدلال فإن الدليل في كونه مطراً يحيي الأرض بعد موتها . وهذا قياس تمثيل للنبت ، أي في السماء المطر الذي ترزقون بسببه .
فالرزق : هو المطر الذي تحمله السحب والسماء هنا : طبقات الجو . وتقديم المجرور على متعلقه للتشويق وللاهتمام بالمكان وللردّ على الفاصلة .
وعَطف { وما توعدون } إدماج بين أدلة إثبات البعث لقصد الموعظة الشاملة للوعيد على الإشراك والوعد على الإيمان إن آمنوا تعجيلاً بالموعظة عند سنوح فرصتها .
وفي إيثار صيغة { تُوعَدون } خصوصية من خصائص إعجاز القرآن ، فإن هذه الصيغة صالحة لأن تكون مصوغة من الوعد فيكون وزن { توعدون } تفعلون مضارع وعَد مبنياً للنائب . وأصله قبل البناء للنائب تَعدون وأصله تَوْعَدُون ، فلما بني للنائب ضُمّ حرف المضارعة فصارت الواو الساكنة مَدة مجانسة للضمة فصار : تُوعدون . وصالحة لأن تكون من الإيعاد ووَزنه تأفْعَلُون مثل تصريف أكرم يكرم وبذلك صار { توعدون } مثل تُكرمَون ، فاحتملت للبشارة والإنذار .
وكون ذلك في السماء يجوز أن يكون معناه أنه محقق في علم أهل السماء ، أي الملائكة الموكلين بتصريفه . ويجوز أن يكون المعنى : أن مَكان حصوله في السماء ، من جنة أو جهنم بناء على أن الجنة وجهنم موجودتان من قبل يوم القيامة ، وفي ذلك اختلاف لا حاجة إلى ذكره . وفيه إيماء إلى أن ما أوعدوه يأتيهم من قِبَل السماء كما قال تعالى : { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم } [ الدخان : 10 ، 11 ] . فإن ذلك الدخان كان في طبقات الجو كما تقدم في سورة الدخان .