قوله تعالى : { ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب } يقال : إن الله لم يبعث نبياً بعد إبراهيم إلا من نسله ، { وآتيناه أجره في الدنيا } وهو الثناء الحسن فكل أهل الأديان يتولونه ، وقال السدي : هو الولد الصالح ، وقيل : هو أنه أري مكانه في الجنة ، { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } أي : في زمرة الصالحين . قال ابن عباس : مثل آدم ونوح .
{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } أي : بعد ما هاجر إلى الشام { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } فلم يأت بعده نبي إلا من ذريته ، ولا نزل كتاب إلا على ذريته ، حتى ختموا{[624]} بالنبي محمد صلى اللّه عليه وسلم وعليهم أجمعين .
وهذا [ من ] أعظم المناقب والمفاخر ، أن تكون مواد الهداية والرحمة والسعادة والفلاح في ذريَّته ، وعلى أيديهم اهتدى المهتدون ، وآمن المؤمنون ، وصلح الصالحون . { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا } من الزوجة الجميلة فائقة الجمال ، والرزق الواسع ، والأولاد ، الذين بهم قرت عينه ، ومعرفة اللّه ومحبته ، والإنابة إليه .
{ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } بل هو ومحمد صلى اللّه عليهما وسلم أفضل الصالحين على الإطلاق ، وأعلاهم منزلة ، فجمع اللّه له بين سعادة الدنيا والآخرة .
وعوض الله إبراهيم عن وطنه وعن قومه وعن أهله - عوضه عن هذا كله ذرية تمضي فيها رسالة الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . فكل الأنبياء وكل الدعوات بعده كانت في ذريته . وهو عوض ضخم في الدنيا وفي الآخرة :
( ووهبنا له إسحاق ويعقوب . وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب . وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ) .
وهو فيض من العطاء جزيل ، يتجلى فيه رضوان الله سبحانه على الرجل الذي يتمثل فيه الخلوص لله بكليته ، والذي أجمع الطغيان على حرقه بالنار ، فكان كل شيء من حوله بردا وسلاما ، وعطفا وإنعاما . جزاء وفاقا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرّيّتِهِ النّبُوّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدّنْيَا وَإِنّهُ فِي الاَخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ورزقناه من لدنا إسحاق ولدا ، ويعقوبَ من بعده وَلَدَ وَلَدٍ . كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَوَهَبْنا لَهُ إسحَاقَ وَيَعْقُوبَ قال : هما ولدا إبراهيم .
وقوله : وَجَعَلْنا فِي ذُرّيّتِهِ النّبَوّةَ والكِتابَ بمعنى الجمع ، يراد به الكتب ، ولكنه خُرّج مُخْرج قولهم : كثر الدرهم والدينار عند فلان .
وقوله : وآتَيْناهُ أجْرَهُ فِي الدّنْيا يقول تعالى ذكره : وأعطيناه ثواب بلائه فينا في الدنيا وَإنّهُ مع ذلك في الاَخِرةِ لَمِنَ الصّالِحينَ فله هناك أيضا جزاء الصالحين ، غير منتقص حَظّه بما أعطى في الدنيا من الأجر على بلائه في الله ، عما له عنده في الاَخرة .
وقيل : إن الأجر الذي ذكره الله عزّ وجلّ ، أنه آتاه إبراهيم في الدنيا هو الثناء الحسن ، والولد الصالح . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وآتَيْناه أجْرَهُ فِي الدّنْيا قال : الثناء .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن ليث قال : أرسل مجاهد رجلاً يقال له قاسم إلى عكرِمة يسأله عن قوله وآتَيْناهُ أجْرَهُ فِي الدّنْيا . وَإنّهُ فِي الاَخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ قال : قال أجره في الدنيا أن كل ملة تتولاه ، وهو عند الله من الصالحين ، قال : فرجع إلى مجاهد فقال : أصاب .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن مندل ، عمن ذكره ، عن ابن عباس وآتَيْناهُ أجْرَهُ فِي الدّنْيا قال : الولد الصالح والثناء .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس وآتَيْناهُ أجْرَهُ فِي الدّنْيا يقول : الذكر الحسن .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله وآتَيْناهُ أجْرَهُ فِي الدّنْيا قال : عافية وعملاً صالحا ، وثناء حسنا ، فلست بلاق أحدا من الملل إلا يرى إبراهيم ويتولاه وَإنّهُ فِي الاَخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ .
{ ووهبنا له إسحاق ويعقوب } ولدا ونافلة حين أيس من الولادة من عجوز عاقر ولذلك لم يذكر إسماعيل . { وجعلنا في ذريته النبوة } فكثر منهم الأنبياء . { والكتاب } يريد به الجنس ليتناول الكتب الأربعة . { وآتيناه أجره } على هجرته إلينا . { في الدنيا } بإعطاء الولد في غير أوانه ، والذرية الطيبة واستمرار النبوة فيهم وإنماء أهل الملل إليه والثناء والصلاة عليه إلى آخر الدهر . { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } لفي عداد الكاملين في الصلاح .
و { إسحاق } بن إبراهيم هو الذي بشر به في شيخه ، وبشر ب { يعقوب } من ورائه فهو ولد إسحاق ، { والكتاب } اسم الجنس أي جعل الله تعالى في ذرية إبراهيم جميع الكتب المنزلة التوراة والإنجيل والزبور والقرآن ، وعيسى عليه السلام من ذريته ، وقوله { أجره في الدنيا } ، يريد في حياته وبحيث أدرك ذلك وسر به ، والأجر الذي آتاه الله هو العافية من النار ومن الملك الجائر والعمل الصالح والثناء الحسن قاله مجاهد ، وأن كل أمة تتولاه ، قاله ابن جريج ، والولد الذي قرت به العين بحسب طاعة الله ، قاله الحسن ثم أخبر عنه أنه في الآخرة في عداد الصالحين الذين نالوا رضى الله وفازوا برحمته وكرامته العليا .
{ ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوءة والكتاب }
هذا الكلام عُقبت به قصة إبراهيم تبياناً لفضلة إذ لا علاقة له بالقصة . والظاهر أن يكون المراد ب { وَوَهَبْنَا } { وَجَعَلْنَا } ، و { جعلنا } الإعلام بذلك فيكون من تمام القصة كما في سورة هود . وتقدم نظير هذه الآية في الأنعام في ذكر فضائل إبراهيم . و { الكتاب } مراد به الجنس فالتوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والقرآن كتب نزلت في ذرية إبراهيم .
{ وَءَاتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِى الدنيا وَإِنَّهُ فِى الآخرة لمن الصالحين } .
جمع الله له أجرين : أجراً في الدنيا بنصره على أعدائه وبحسن السمعة وبث التوحيد ووفرة النسل ، وأجراً في الآخرة وهو كونه في زمرة الصالحين ، والتعريف للكمال ، أي من كُمل الصالحين .