{ وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } أي كالوا لهم أو وزنوا لهم أي للناس ، يقال : وزنتك حقك وكلتك طعامك ، أي وزنت لك وكلت لك كما يقال : نصحتك ونصحت لك وشكرتك وشكرت لك ، وكتبتك وكتبت لك . قال أبو عبيدة : وكان عيسى بن عمر يجعلهما حرفين يقف على كالوا أو وزنوا ويبتدئ هم يخسرون وقال أبو عبيدة : والاختيار الأول ، يعني : أن كل واحدة كلمة واحدة ، لأنهم كتبوهما بغير ألف ، ولو كانتا مقطوعتين لكانت : كالوا أو وزنوا بالألف كسائر الأفعال مثل جاؤوا وقالوا : واتفقت المصاحف على إسقاط الألف ، ولأنه يقال في اللغة : كلتك ووزنتك كما يقال : كلت لك ووزنت لك . وقوله :{ يخسرون } أي ينقصون ، قال نافع : كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول : اتق الله وأوف الكيل والوزن ، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة حتى إن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم .
{ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ } أي : إذا أعطوا الناس حقهم ، الذي للناس{[1375]} عليهم بكيل أو وزن ، { يُخْسِرُونَ } أي : ينقصونهم ذلك ، إما بمكيال وميزان ناقصين ، أو بعدم ملء المكيال والميزان ، أو نحو ذلك . فهذا سرقة [ لأموال ] الناس{[1376]} ، وعدم إنصاف [ لهم ] منهم .
وإذا كان هذا الوعيد على الذين يبخسون الناس بالمكيال والميزان ، فالذي يأخذ أموالهم قهرًا أو سرقة ، أولى بهذا الوعيد{[1377]} من المطففين .
ودلت الآية الكريمة ، على أن الإنسان كما يأخذ من الناس الذي له ، يجب عليه أن يعطيهم كل ما لهم من الأموال والمعاملات ، بل يدخل في [ عموم هذا ]{[1378]} الحجج والمقالات ، فإنه كما أن المتناظرين قد جرت العادة أن كل واحد [ منهما ] يحرص على ماله من الحجج ، فيجب عليه أيضًا أن يبين ما لخصمه من الحجج{[1379]} [ التي لا يعلمها ] ، وأن ينظر في أدلة خصمه كما ينظر في أدلته هو ، وفي هذا الموضع يعرف إنصاف الإنسان من تعصبه واعتسافه ، وتواضعه من كبره ، وعقله من سفهه ، نسأل الله التوفيق لكل خير .
ثم توعد تعالى المطففين ، وتعجب من حالهم وإقامتهم على ما هم عليه ، فقال :
وقوله : وَإذَا كالُوهُمْ أوْ وَزَنُوهُمْ يقول : وإذا هم كالوا للناس أو وزنوا لهم . ومن لغة أهل الحجاز أن يقولوا : وزنتك حقك ، وكلتك طعامك ، بمعنى : وزنت لك وكلت لك . ومن وجّه الكلام إلى هذا المعنى ، جعل الوقف على هم ، وجعل هم في موضع نصب . وكان عيسى بن عمر فيما ذُكر عنه يجعلهما حرفين ، ويقف على كالوا ، وعلى وزنوا ، ثم يبتدىء : هم يُخسرون . فمن وجّه الكلام إلى هذا المعنى ، جعل هم في موضع رفع ، وجعل كالوا ووزنوا مكتفيين بأنفسهما .
والصواب في ذلك عندي : الوقف على هم ، لأن كالوا ووزنوا لو كانا مكتفيين ، وكانت هم كلاما مستأنفا ، كانت كتابة كالوا ووزنوا بألف فاصلة بينها وبين هم مع كل واحد منهما ، إذ كان بذلك جرى الكتاب في نظائر ذلك ، إذا لم يكن متصلاً به شيء من كنايات المفعول ، فكتابهم ذلك في هذا الموضع بغير ألف أوضح الدليل على أن قوله : هُمْ إنما هو كناية أسماء المفعول بهم . فتأويل الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا ، على ما بيّنا .
وإذا كالوهم أو وزنوهم أي إذا كالوا الناس أو وزنوا لهم يخسرون فحذف الجار وأوصل الفعل كقوله ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا بمعنى جنيت لك أو كالوا مكيلهم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ولا يحسن جعل المنفصل تأكيدا للمتصل فإنه يخرج الكلام عن مقابلة ما قبله إذ المقصود بيان اختلاف حالهم في الأخذ والدفع لا في المباشرة وعدمها ويستدعي إثبات الألف بعد الواو كما هو خط المصحف في نظائره .
و { كالوهم } معناه : قبضوهم ، يقال : كلت منك واكتلت عليك ، ويقال : وكلت لك فلما حذفت اللام تعدى الفعل ، قال الفراء والأخفش .
ولقد جنتك أكمؤاً وعساقلاً*** ولقد نهيتك عن بنات الأوبر{[11674]}
وعلى هذا المعنى هي قراءة الجمهور ، وكان عيسى بن عمر يجعلها حرفين{[11675]} ويقف على «كالوا » و «وزنوا » بمعنى : هم يخسرون إذا كالوا ووزنوا . ورويت عن حمزة{[11676]} ، فقوله : «هم » تأكيد للضمير ، وظاهر هذه الآية يقتضي أن الكيل والوزن على البائع وليس ذلك بالجلي ، وصدر الآية هو في المشترين ، فذمهم بأنهم { يستوفون } ويشاحون في ذلك ، إذ لا تمكنهم الزيادة على الاستيفاء لأن البائع يحفظ نفسه ، فهذا مبلغ قدرتهم في ترك الفضيلة والسماحة المندوب إليها ، ثم ذكر أنه إذا باعوا أمكنهم من الظلم والتطفيف أن يخسروا لأنهم يتولون الكيل للمشتري منهم وذلك بحالة من يخسر البائع إن قدر ، و { يخسرون } معدى بالهمزة يقال : خسر الرجل وأخسره غيره ، والمفعول ل { كالوهم } محذوف
فالواوان من { كالوهم أو وزنوهم } عائدان إلى اسم الموصول والضميران المنفصلان عائدان إلى الناس .
وتعدية « كالوا » ، و« وزنوا » إلى الضميرين على حذف لام الجر . وأصله كَالُوا لهم ووزنوا لهم ، كما حذفت اللام في قوله تعالى في سورة البقرة ( 233 ) { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم } أي تسترضعوا لأولادكم ، وقولهم في المثل الحريصُ يصيدك لا الجوادُ أي الحريص يصيد لك . وهو حذف كثير مثل قولهم : نصحتك وشكرتك ، أصلهما نصحت لك وشكرت لك ، لأن فعل كال وفعل وزن لا يتعديان بأنفسهما إلا إلى الشيء المكيل أو الموزون يقال : كال له طعاماً ووزن له فضة ، ولكثرة دورانه على اللسان خففوه فقالوا : كاله ووزنه طعاماً على الحذف والإِيصال .
قال الفراء : هو من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس يقولون : يكيلنا ، يعني ويقولون أيضاً : كالَ له ووزن له . وهو يريد أن غير أهل الحجاز وقيس لا يقولون : كال له ووزن له ، ولا يقولون إلاّ : كاله ووزنه ، فيكون فعل كال عندهم مثل باع .
والاقتصار على قوله : { إذا اكتالوا } دون أن يقول : وإذا اتَّزنوا كما قال : { وإذا كالوهم أو وزنوهم } اكتفاء بذكر الوزن في الثاني تجنباً لفعل : « اتزنوا » لقلة دورانه في الكلام فكان فيه شيء من الثقل . ولنكتة أخرى وهي أن المطففين هم أهل التجر وهم يأخذون السلع من الجالبين في الغالب بالكيل لأن الجالبين يجلبون التمر والحنطة ونحوهما مما يكال ويدفعون لهم الأثمان عيناً بما يوزن من ذهب أو فضة مسكوكين أو غيرَ مسكوكين ، فلذلك اقتُصر في ابتياعهم من الجالبين على الاكتيال نظراً إلى الغالب ، وذكر في بيعهم للمبتاعين الكيل والوزن لأنهم يبيعون الأشياء كيلاً ويقبضون الأثمان وزناً . وفي هذا إشارة إلى أن التطفيف من عمل تجارهم .
و { يستوفون } جواب { إذا } والاستيفاء أخذ الشيء وافياً ، فالسين والتاء فيه للمبالغة في الفعل مثل : استجاب .
ومعنى { يخسرون } يوقعون الذين كالوا لهم أو وزنوا لهم في الخسارة ، والخسارة النقص من المال من التبايع .
وهذه الآية تحذير للمسلمين من التساهل في التطفيف إذ وجوده فاشياً في المدينة في أول هجرتهم وذم للمشركين من أهل المدينة وأهل مكة .
وحسبهم أن التطفيف يجمع ظلماً واختلاساً ولؤماً ، والعرب كانوا يتعيرون بكل واحد من هذه الخلال متفرّقة ويتبرؤون منها ، ثم يأتونها مجتمعة ، وناهيك بذلك أفناً .