{ 39 ْ } { وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُم ْ }
أي : الرؤساء ، قالوا لأتباعهم : { فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ ْ } أي : قد اشتركنا جميعا في الغي والضلال ، وفي فعل أسباب العذاب ، فأي : فضل لكم علينا ؟ { فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ْ } ولكنه من المعلوم أن عذاب الرؤساء وأئمة الضلال أبلغ وأشنع من عذاب الأتباع ، كما أن نعيم أئمة الهدى ورؤسائه أعظم من ثواب الأتباع ، قال تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ْ } فهذه الآيات ونحوها ، دلت على أن سائر أنواع المكذبين بآيات اللّه ، مخلدون في العذاب ، مشتركون فيه وفي أصله ، وإن كانوا متفاوتين في مقداره ، بحسب أعمالهم وعنادهم وظلمهم وافترائهم ، وأن مودتهم التي كانت بينهم في الدنيا تنقلب يوم القيامة عداوة وملاعنة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لاُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } .
يقول جلّ ثناؤه : وقالت أولى كلّ أمة وملة سبقت في الدنيا لأخراها الذين جاءوا من بعدهم وحدثوا بعد زمانهم فيها ، فسلكوا سبيلهم واستنوا سنتهم : فَمَا كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ وقد علمتم ما حلّ بنا من عقوبة الله بمعصيتنا إياه وكفرنا به ، وجاءتنا وجاءتكم بذلك الرسل والنّذر ، هل انتهيتم إلى طاعة الله ، وارتدعتم عن غوايتكم وضلالتكم ؟ فانقضت حجة القوم وخصموا ولم يطيقوا جوابا بأن يقولوا فُضّلنا عليكم أنا اعتبرنا بكم فآمنا بالله وصدّقنا رسله ، قال الله لجميعهم : فذوقوا جميعكم أيها الكفرة عذاب جهنم ، بما كنتم في الدنيا تكسبون من الاَثام والمعاصي ، وتجترحون من الذنوب والأجرام
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت عمران ، عن أبي مجلز : وَقالَتْ أُولاهم لاِخْرَاهُمْ فَمَا كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ قال : يقول : فما فضلكم علينا ، وقد بين لكم ما صنع بنا وحُذرتم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَقالَتْ أُولاهُمْ لاِخْرَاهُمْ فَمَا كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فقد ضللتم كما ضللنا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَمَا كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ قال : من التخفيف من العذاب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَمَا كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْل قال : من تخفيف .
وهذا القول الذي ذكرناه عن مجاهد قول لا معنى له ، لأن قول القائلين : فما كان لكم علينا من فضل ، لمن قالوا ذلك إنما هو توبيخ منهم على ما سلف منهم قبل تلك الحال ، يدلّ على ذلك دخول «كان » في الكلام ، ولو كان ذلك منهم توبيخا لهم على قيلهم الذي قالول لربهم : آتهم عذابا ضعفا من النار ، لكان التوبيخ أن يقال : فما لكم علينا من فضل في تخفيف العذاب عنكم وقد نالكم من العذاب ما قد نالنا . ولم يقل : فما كان لكم علينا من فضل .
عُطفتْ جملة : { وقالت أولاهم لأخراهم } على جملة : { قالت أخراهم لأولاهم } لأنّهم لم يَدخلوا في المحاورة ابتداء فلذلك لم تفصل الجملة .
والفاء في قولهم : { فما كان لكم علينا من فضل } فاء فصيحة ، مرتبة على قول الله تعالى { لكل ضعف } حيث سوّى بين الطّائفتين في مضاعفة العذاب . و ( مَا ) نافية . و ( مِنْ ) زائدة لتأكيد نفي الفضل ، لأنّ إخبار الله تعالى بقوله : { لكل ضعف } سبب للعلم بأن لا مزية لأخراهم عليهم في تعذيبهم عذابا أقل من عذابهم فالتقدير : فإذا كان لكل ضعف فما كان لكم من فضل . والمراد بالفضل الزيادة من العذاب .
وقوله : { فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون } يجوز أن يكون من كلام أولاهم : عَطَفوا قولهم : { ذوقوا العذاب } على قولهم : { فما كان لكم علينا من فضل } بفاء العطف الدّالة على التّرتب .
فالتشفي منهم فيما نالهم من عذاب الضّعف ترتَّب على تحقّق انتفاء الفضل بينهم في تضعيف العذاب الذي أفصح عنه إخبار الله بأنّ لهم عذاباً ضعفاً .
وصيغة الأمر في قولهم : { فذوقوا } مستعملة في الإهانة والتشفّي .
والذّوق استُعمل مجازاً مرسلاً في الإحساس بحاسّة اللّمس ، وقد تقدّم نظائره غير مرّة .
والباء سببيّة ، أي بسبب ما كنتم تكسبون ممّا أوجب لكم مضاعفة العذاب ، وعبّر بالكسب دون الكفر لأنّه أشمل لأحوالهم ، لأنّ إضلالهم لأعقابهم كان بالكفر وبحبّ الفخر والاغرَاب بما علّموهم وَمَا سَنْوا لهم ، فشمل ذلك كلَّه أنّه كسب .
يجوز أن يكون قوله : { فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون } من كلام الله تعالى ، مخاطباً به كلا الفريقين ، فيكون عطفاً على قوله : { لكل ضعف ولكن لا تعلمون } ويكون قوله : { وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل } جملة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين ، وعلى اعتباره يكون الأمر في قوله : { فذوقوا } للتكوين والإهانة .
وفيما قصّ الله من محاورة قادة الأمم وأتباعهم ما فيه موعظة وتحذير لقادة المسلمين من الإيقاع بأتباعهم فيما يَزِجّ بهم في الضّلالة ، ويحسِّن لهم هواهم ، وموعظة لعامتهم من الاسترسال في تأييد من يشايع هواهم ، ولا يبلغهم النّصيحة ، وفي الحديث : « كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته » .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.