اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالَتۡ أُولَىٰهُمۡ لِأُخۡرَىٰهُمۡ فَمَا كَانَ لَكُمۡ عَلَيۡنَا مِن فَضۡلٖ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡسِبُونَ} (39)

قوله : " وَقَالَتْ أُولاَهُمْ " أي في ترك الكُفْرِ والضَّلال وإنَّا متشاركون في استحقاق العذاب .

فإن قيل : إن هذا منهم كذب ؛ لأنَّهُمْ لكونهم رؤساء سادة وقادة ، قد دعوا إلى الكُفْرِ والتَّرغيب فيه ، فكانُوا ضالِّين مضلّين ، وأمَّا الأتباع والضَّعفاء وإن كانوا ضَالين إلاَّ أنَّهُم ما كانوا مضلّين ، فبطل قولهم : إنَّهُ لا فضل للأتباع على الرُّؤساء في تَرْكِ الضَّلال والكُفْرِ{[16116]} .

فالجواب : أنَّ أقصى ما في الباب أنَّهم كذبوا في هذا القول يوم القيامة ، وعندنا أنَّ ذلك جائز كما قرّرناه في سورة الأنعام في قوله : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] .

قوله : " فما " : هذه الفاء عاطفة هذه الجملة المنفيّة على قول الله تعالى للسَّفلة : " لِكُلِّ ضِعْفٌ " أي : فقد ثَبَتَ أنَّ لا فضل لكم علينا ، وأنا متساوون في استحقاق الضِّعف فذوقوا .

قال أبُو حَيَّان{[16117]} - بعد أنْ حكى بعض كلام الزَّمخشري{[16118]} - : والذي يظهر أنَّ المعنى انتفاء كون فضل عليهم من السَّفلة في الدُّنيا بسبب اتباعهم إيَّاهم ، وموافقتهم لهم في الكُفْرِ أي : اتِّباعُكم إيّانا ، وعدم اتِّباعكم سواء ؛ لأنَّكُم كنتم في الدُّنيا عندنا أقلَّ من أن يكون لكم علينا فضِل باتِّباعكم ، بل كفرتم اختياراً ، لا أنَّا حملْنَاكم على الكُفْرِ إجباراً ، وأنَّ قوله : " فَمَا كَانَ " جملة معطوفة على جُمْلَةٍ محذُوفَةٍ بعد القَوْلِ دَلَّ عليها ما سبق من الكلام ، والتَّقديرُ : قالت أولاهم لأخراهم : ما دعاؤكم اللَّه أنَّا أضللناكم وسؤالكم ما سألتم ، فما كان لكم علينا من فضلٍ بضلالكم ، وأنَّ قوله : " فَذُوقُوا " من كلام الأولى خِطَاباً للأخرى على سبيل التشفِّي ، وأن ذَوْقَ العذاب هو بسبب ما كَسَبْتُمْ لا بأنَّا أضْلَلْنَاكُمْ .

وقيل : فذوقوا من خطاب الله لهم .

و " بِمَا " " الباء " سببية ، و " مَا " مصدرية ، أو بمعنى " الَّذي " ، والعائد محذوف أي : تكسبونه .


[16116]:ينظر: الرازي 14/62.
[16117]:ينظر: البحر المحيط 4/299.
[16118]:ينظر : الكشاف 2/103.