المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَقَالَتۡ أُولَىٰهُمۡ لِأُخۡرَىٰهُمۡ فَمَا كَانَ لَكُمۡ عَلَيۡنَا مِن فَضۡلٖ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡسِبُونَ} (39)

وقوله تعالى : { قالت أخراهم لأولاهم } معناه قالت الأمة الأخيرة التي وجدت ضلالات مقررة وسنناً كاذبة مستعملة للأولى التي شرعت ذلك وافترت على الله وسلكت سبيل الضلال ابتداء ، ربنا هؤلاء طرقوا طرق الضلال وسببوا ضلالنا فآتهم عذاباً مضاعفاً أي ثانياً زائداً على عذابنا إذ هم كافرون ومسببون كفرنا وتقول ضاعفت كذا إذا جعلته مثل الأول ، واللام في قوله { لأولادهم } كأنها لام سبب إذ القول إنما هو للرب ، ثم قال عز وجل مخبراً لهم { لكل ضعف } أي العذاب مشدد على الأول والآخر ولكن لا تعلمون أي المقادير وصور التضعيف ، وهذا رد لكلام هؤلاء ، إذ ليس لهم كرامة فيظهر إسعافهم .

وأما المعنى الذي دعوا فيه فظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه حاصل وأن كل من سن كفراً أو معصية فعليه كفل من جهة كل من عمل بذلك بعده ، ومنه حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «ما من داع دعا إلى ضلالة إلا كان عليه وزره ووزر من اتبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً » الحديث ، ذكره الليث بن سعد من آخر الجزء الرابع من حديثه ، وذكره مالك في الموطأ غير مسند موصل ، ومنه قوله «ما تقتل نسمة ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها » ، أما أن هؤلاء عينوا في جميع السبعة غير عاصم في رواية أبي بكر «ولكن لا تعلمون » بالتاء ويحتمل ذلك أن يكون مخاطبة لمحمد وأمته ، وقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر «ولكن لا يعلمون » ، وروى حفص عن عاصم مثل قراءة الجماعة ، وهذه مخاطبة لأمة محمد وإخبار عن الأمة الأخيرة التي طلبت أن يشدد العذاب على أولاها ، ويحتمل أن يكون خبراً عن الطائفتين حملاً على لفظة «كل » ، أي لا يعلم أحد منهم قدر ما أعد لهم من عذاب الله .

وقوله عز وجل : { وقالت أولاهم لأخراهم } الآية ، المعنى وقالت الأمة الأولى المبتدعة للأمة الأخيرة المتبعة أنتم لا فضل لكم علينا ولم تزدجروا حين جاءتكم النذر والرسل ، بل دمتم في كفركم وتركتم النظر واستوت حالنا وحالكم فذوقوا العذاب باجترامكم ، هذا قول السدي وأبي مجلز وغيرهما ، فقوله فذوقوا على هذا من كلام الأمة المتقدمة للأمة المتأخرة ، وقيل قوله { فذوقوا } هو من كلام الله عز وجل لجميعهم ، وقال مجاهد ومعنى قوله { من فضل } أي «من » التخفيف .

قال القاضي أبو محمد : معناه أنه لما قال الله { لكل ضعف } قال الأولون للآخرين لم تبلغوا أملاً في أن يكون عذابكم أخف من عذابنا ولا فضلتم بالإسعاف والنص عليه .