قوله تعالى : { نحن أعلم بما يستمعون به } ، قيل : به صلة ، أي : يطلبون سماعه ، { إذ يستمعون إليك } ، وأنت تقرأ القرآن ، { وإذ هم نجوى } ، يتناجون في أمرك . وقيل : ذوو نجوى ، فبعضهم يقول : هذا مجنون ، وبعضهم يقول : كاهن ، وبعضهم يقول : ساحر ، وبعضهم يقول : شاعر . { إذ يقول الظالمون } ، يعني : الوليد بن المغيرة وأصحابه ، { إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً } ، مطبوباً . وقال مجاهد : مخدوعاً . وقيل : مصروفاً عن الحق . يقال : ما سحرك عن كذا أي ما صرفك ؟ وقال أبو عبيدة : أي رجلاً له سحر ، والسحر :الرئة أي : إنه بشر مثلكم معلل بالطعام والشراب يأكل ويشرب قال الشاعر :
{ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ } أي : إنما منعناهم من الانتفاع عند سماع القرآن لأننا نعلم أن مقاصدهم سيئة يريدون أن يعثروا على أقل شيء ليقدحوا به ، وليس استماعهم لأجل الاسترشاد وقبول الحق وإنما هم متعمدون على عدم اتباعه ، ومن كان بهذه الحالة لم يفده الاستماع شيئا ولهذا قال : { إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى } أي : متناجين { إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ } في مناجاتهم : { إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا } فإذا كانت هذه مناجاتهم الظالمة فيما بينهم وقد بنوها على أنه مسحور فهم جازمون أنهم غير معتبرين لما قال ، وأنه يهذي لا يدري ما يقول .
ثم ساق - سبحانه - ما يدل على كمال علمه . وأنه - تعالى - سيجازى هؤلاء الكافرين بما يستحقون من عقاب ، فقال - عز وجل - : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نجوى إِذْ يَقُولُ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } .
والباء فى قوله - سبحانه - : { بما يستمعون } متعلقة بأعلم ، ومفعول { يستمعون } محذوف ، تقديره ، القرآن .
قال الآلوسى : قوله : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ } أى : ملتبسين به من اللغو والاستخفاف ، والاستهزاء بك وبالقرآن . يروى أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم عن يمينه رجلان من بنى عبد الدار ، وعن يساره رجلان منهم ، فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار - إذا قرأ القرآن - .
ويجوز أن تكون الباء للسببية أو بمعنى اللام . أى : نحن أعلم بما يستمعون بسببه أو لأجله من الهزء ، وهم متعلقة بيستمعون . . وأفعل التفضيل فى العلم والجهل يتعدى بالباء ، وفى سوى ذلك يتعدى باللام ، فيقال : هو أكسى للفقراء ، والمراد من كونه - سبحانه - أعلم بذلك : الوعيد لهم . . .
وإذ فى قوله { إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نجوى } ظرف لأعلم .
ولفظ { نجوى } مصدر بمعنى التناجى والمسارة فى الحديث . وقد جعلوا عين النجوى على سبيل المبالغة ، كما فى قولهم : قوم عدل .
ويجوز أن يكون جمع نَجِىٍّ ، كقتلى جمع قتيل أى : وإذ هم متناجون فى أمرك .
والمعنى : نحن - أيها الرسول الكريم - على علم تام بأحوال المشركين عند استماعهم للقرآن الكريم . حين تتلوه عليهم ، وبالطريقة التى يستمعون بها وبالغرض الذى من أجله يستمعون إليك . وعلى علم تام بأحوالهم حين يستمعون إليك فرادى : وحين يستمعون إليك ثم يتناجون فيما بينهم بالإِثم والعدوان ، والتواصى بمعصيتك .
فالجملة الكريمة وعيد شديد للمشركين على استماعهم المصحوب بالاستهزاء والسخرية من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن القرآن . وتسلية له صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم ، وبيان لشمول علم الله - تعالى - لكل أحوالهم الظاهرة والخفية .
وقوله - تعالى - : { إِذْ يَقُولُ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } بدل من قوله - تعالى - : { وَإِذْ هُمْ نجوى } .
والمسحور . هو الذى سحر فاختلط عقله ، وزالت عنه الهيئة السوية .
أى : ونحن أعلم بهؤلاء الأشقياء - أيضا - عندما يقول بعضهم لبعض : لا تتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم فيما يدعوا إليه ، فإنكم إن اتبعتموه تكونون قد اتبعتم رجلا مسحورا ، أصابه السحر فأخرجه عن وعيه وعقله .
وقال - سبحانه - : { إِذْ يَقُولُ الظالمون } بالإِظهار دون الإِضمار ، لتسجيل الظلم عليهم فيما تفوهوا به ، وأنهم سيستحقون عقوبة الظالم .
{ نحن أعلم بما يستمعون به } بسببه ولأجله من الهزء بك وبالقرآن . { إذ يستمعون إليك } ظرف ل { أعلم } وكذا . { وإذ هم نجوى } أي نحن أعلم بغرضهم من الاستماع حين هم مستمعون إليك مضمرون له وحين هم ذوو نجوى يتناجون به ، و{ نجوى } مصدر ويحتمل أن يكون جمع نجى . { إذ يقول الظالمون أن تتّبعون إلا رجلا مسحورا } مقدر باذكر ، أو بدل من { إذ هم نجوى } على وضع { الظالمون } موضع الضمير للدلالة على أن تناجيهم بقولهم هذا من باب الظلم ، والمسحور هو الذي سُحر فزال عقله . وقيل الذي له سحر وهو الرئة أي إلا رجلا يتنفس ويأكل ويشرب مثلكم .
كان المشركون يحيطون بالنبي صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام إذا قرأ القرآن يستمعون لما يقوله ليتلقفوا ما في القرآن مما ينكرونه ، مثل توحيد الله ، وإثبات البعث بعد الموت ، فيعجب بعضُهم بعضاً من ذلك ، فكان الإخبار عنهم بأنهم جُعلت في قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقر وأنهم يولون على أدبارهم نفوراً إذا ذكر الله وحده ، ويثير في نفس السامع سُؤالاً عن سبب تجمعهم لاستماع قراءة النبي عليه الصلاة والسلام ، فكانت هذه الآية جواباً عن ذلك السؤال . فالجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً .
وافتتاح الجملة بضمير الجلالة لإظهار العناية بمضمونها . والمعنى : أنّ الله يعلم علماً حقاً داعي استماعهم ، فإن كثرت الظنون فيه فلا يعلم أحد ذلك السبب .
« وأعلَم » اسم تفضيل مستعمل في معنى قوة العلم وتفصيله . وليس المراد أن الله أشد علماً من غيره إذ لا يقتضيه المقام .
والباء في قوله : { بما يستمعون } لتعدية اسم التفضيل إلى متعلقه لأنّه قاصر عن التعدية إلى المفعول . واسم التفضيل المشتق من العلم ومن الجهل يُعدى بالباء وفي سوى ذينك يعدى باللام . يقال : هو أعظَى للدراهم .
والباء في { يستمعون به } للملابسة . والضمير المجرور بالباء عائد إلى ( ما ) الموصولة ، أي نحن أعلم بالشيء الذي يلابسهم حين يستمعون إليك ، وهي ظرف مستقر في موضع الحال . والتقدير : متلبسين به .
وبيان إبْهام ( ما ) حاصل بقوله : { إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى } .
و ( إذ ) ظرف ل { يستمعون به } .
والنجوى : اسم مصدر المناجاة ، وهي المحادثة سِراً . وتقدم في قوله : { لا خير في كثير من نجواهم } في سورة { النساء : 114 ] .
وأخبر عنهم بالمصدر للمبالغة في كثرة تناجيهم عند استماع القرآن تشاغُلاً عنه .
وإذ هم نجوى } عطف على { إذ يستمعون إليك } ، أي نحن أعلم بالّذي يستمعونه ، ونحْن أعلم بنجواهم .
و { إذ يقول } بَدل من { إذ هم نجوى } بدل بعض من كل ، لأن نجواهم غير منحصرة في هذا القوْل . وإنما خص هذا القول بالذكر لأنه أشدّ غرابة من بقية آفاكهم للبون الواضح بين حال النبي صلى الله عليه وسلم وبين حال المسحور .
ووقع إظهار في مقام الإضمار في { إذ يقول الظالمون } دون : إذ يقولون ، للدلالة على أن باعث قولهم ذلك هو الظلم ، أي الشرك فإن الشرك ظلم ، أي ولولا شركهم لما مثل عاقل حالة النبي الكاملة بحالة المسحور . ويجوز أن يراد الظلم أيضاً الاعتداء ، أي الاعتداء على النبي صلى الله عليه وسلم كذباً .