{ 20 - 21 } { أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ }
يقول تعالى للعتاة النافرين عن أمره ، المعرضين عن الحق : { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ } أي : ينصركم إذا أراد بكم الرحمن سوءًا ، فيدفعه عنكم ؟ أي : من الذي ينصركم على أعدائكم غير الرحمن ؟ فإنه تعالى هو الناصر المعز المذل ، وغيره من الخلق ، لو اجتمعوا على نصر عبد ، لم ينفعوه مثقال ذرة ، على أي عدو كان ، فاستمرار الكافرين على كفرهم ، بعد أن علموا أنه لا ينصرهم أحد من دون الرحمن ، غرور وسفه .
ثم لفت أنظارهم للمرة الثانية إلى قوة بأسه ، ونفاذ إرادته ، وعدم وجود من يأخذ بيدهم إذا ما أنزل بهم عقابه فقال : { أَمَّنْ هذا الذي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرحمن } .
والاستفهام للتحدى والتعجيز ، و { أم } منقطعة بمعنى بل ، فهي للإِضراب الانتقالي من غرض إلى آخر ، ومن حجة إلى أخرى .
و { من } اسم استفهام مبتدأ ، وخبره اسم الإِشارة ، وما بعده صفته .
والمراد بالجند : الجنود الذين يهرعون لنصرة من يحتاج إلى نصرتهم . ولفظ { دُونِ } أصله ظرف للمكان الأسل . . ويطلق على الشئ المغاير ، فيكون بمعنى غير كما هنا ، والمقصود بالآية تحقير شأن هؤلاء الجند ، والتهوين من شأنهم .
والمعنى : بل أخبروني - أيها المشركون - بعد أن ثبتت غفلتكم وعدم تفكيركم تفكيرا ينفعكم ، من هذا الحقير الذي تستعينون به في نصركم ودفع الضر عنكم ، متجاوزين في ذلك إرادة الرحمن ، ومشيئته ونصره . أو من هذا الذي ينصركم نصرا كائنا غير نصر الرحمن ، أو من ينصركم من عذاب كائن من عنده - تعالى - .
والجواب الذي لا تستطيعون جوابا سواه : هو أنه لا ناصر لكم ، يستطيع أن ينصركم من دون الله - تعالى - ، كما قال - سبحانه - { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ . . . } وكما قال - عز وجل - : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } وقوله - سبحانه - : { إِنِ الكافرون إِلاَّ فِي غُرُورٍ } كلام معترض بين ما قبله وما بعده ، لبيان حالهم القبيح وواقعهم المنكر .
أي : بل أخبروني من هذا الذي يزعم أنه يستطيع أن يوصل إليكم الرزق والخير ، إذا أمسك الله - تعالى - عنكم ذلك ، أو منع عنكم الأسباب التي تؤدي إلى نفعكم ، وإلى قوام حياتكم ، كمنع نزول المطر إليكم ، وكإهلاك الزروع والثمار التى تنبتها الأرض . .
إنه لا أحد يستطيع أن يرزقكم سوى الله - تعالى - .
وقوله : { بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } جملة مستأنفة ، جواب لسؤال تقديره : فهل انتفع المشركون بتلك المواعظ ؟ فكان الجواب كلا ، إنهم لم ينتفعوا ، بل { لجوا } أي تمادوا في اللجاج والجدال بالباطل ، { فِي عُتُوٍّ } أي : في استكبار وطغيان ، { وَنُفُورٍ } أي : شرود وتباعد عن الطريق المستقيم .
أي : أنهم ساروا في طريق أهوائهم حتى النهاية ، دون أن يستمعوا إلى صوت نذير أو واعظ أو مرشد .
يقول تعالى للمشركين الذين عبدوا غيره ، يبتغون عندهم نصرًا ورزقًا ، مُنكرًا عليهم فيما اعتقدوه ، ومُخبرا لهم أنه لا يحصل لهم ما أملوه ، فقال : { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ } أي : ليس لكم من دونه من ولي ولا واق ، ولا ناصر لكم غيره ؛ ولهذا قال : { إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ } .
( أم ) منقطعة وهي للإِضراب الانتقالي من غرض إلى غرض فبعد استيفاء غرض إثبات الإلهية الحق لله تعالى بالوحدانية وتذكيرهم بأنهم مفتقرون إليه ، انتقل إلى إبطال أن يكون أحد يدفع عنهم العذاب الذي توعدهم الله به فوُجه إليهم استفهام أن يدلّوا على أحد من أصنامهم أو غيرها يقال فيه هذا هو الذي ينصر من دون الله ، فإنهم غير مستطيعين تعيين أحد لذلك إلاّ إذا سلكوا طريق البهتان وما هم بسالكيه في مثل هذا لافتضاح أمره .
وهذا الكلام ناشىء عن قوله : { أأمنتم من في السماء } [ الملك : 16 ] الآية فهو مثله معترض بين حجج الاستدلال .
و ( أم ) المنقطعة لا يفارقها معنى الاستفهام ، والأكثر أن يكون مقدراً فإذا صرح به كما هنا فأوضح ولا يتوهم أن الاستفهام يقدر بعدها ولو كان يليها استفهام مصرح به فيشكل اجتماع استفهامين .
والاستفهام مستعمل في التعجيز عن التعيين فيؤول إلى الانتفاء ، والإشارة مشار بها إلى مفهوم { جند } مفروض في الأذهان استُحضر للمخاطبين ، فجعل كأنه حاضر في الخارج يشاهده المخاطبون ، فيطلب المتكلم منهم تعيين قبيله بأن يقولوا : بنو فلان . ولما كان الاستفهام مستعملاً في التعجيز استلزم ذلك أن هذا الجند المفروض غير كائن .
وقريب من ذلك قوله تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } [ البقرة : 255 ] ونحوه .
و ( مَن ) في موضع مبتدأ واسم الإشارة خبر عن المبتدأ .
وكتب في المصحف { أمَّن } بميم واحدة بعد الهمزة وهما ميم ( أم ) وميم ( مَن ) المدغمتين بجعلهما كالكلمة الواحدة كما كتب { عمّ يتساءَلون } [ النبأ : 1 ] بميم واحدة بعد العين ، ولا تقرأ إلاّ بميم مشددة إذ المعتبر في قراءة القرآن الرواية دون الكتابة وإنما يكتب القرآن للإعانة على مراجعته .
و { الذي هو جند } صفة لاسم الإِشارة و { لكم } صفة ل { جند } و { ينصركم } جملة في موضع الحال من { جُندٌ } أو صفة ثانية ل { جند } .
ويجوز أن يكون اسم الإشارة مشاراً به إلى جماعة الأصنام المعروفة عندهم الموضوعة في الكعبة وحولَها الذي اتخذتموه جنداً فمَن هو حتى ينصرَكم من دون الله .
فتكون ( مَنْ ) استفهامية مستعملة في التحقير مثل قوله : { من فرعون } [ الدخان : 31 ] في قراءة فتح ميم ( مَن ) ورفع فرعون ، أي من هذا الجند فإنه أحقر من أن يعرف ، واسم الإِشارة صفة لاسم الاستفهام مبينة له ، و { الذي هو جند لكم } صفة لاسم الإِشارة وجملة { ينصركم } خبر عن اسم الاستفهام ، أي هو أقل من أن ينصركم من دون الرحمان . وجيء بالجملة الإسمية { الذي هو جند لكم } لدلالتها على الدوام والثبوت لأن الجند يكون على استعداد للنصر إذا دعي إليه سواء قاتل أم لم يقاتل لأن النصر يحتاج إلى استعداد وتهيُّؤ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم « خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها » أي هيعة جهاد .
فالمعنى : ينصركم عند احتياجكم إلى نصره ، فهذا وجه الجمع بين جملة { هو جند لكم } وجملة { ينصركم } ولم يُستغن بالثانية عن الأولى .
و { دون } أصله ظرف للمكان الأسفل ضِد ( فَوق ) ، ويطلق على المغاير فيكون بمعنى غير على طريقة المجاز المرسل .
فقوله : { مِن دون الرحمان } يجوز أن يكون ظرفاً مستقراً في موضع الحال من الضمير المستتر في { ينصركم } . أي حالة كون الناصر من جانب غير جانب الله ، أي مَن مستطيع غير الله يدفع عنكم السوء على نحو قوله تعالى : { أم لهم ءالهة تمنعهم من دوننا } [ الأنبياء : 43 ] فتكون { مِن } زائدة مؤكدة للظرف وهي تزاد مع الظروف غير المتصرفة ، ولا تجر تلك الظروف بغير { مِن } ، قال الحريري في المقامة الرابعة والعشرين : ومَا منصوب على الظرف لا يخفضه سوى حرف . وفسره بظرف ( عند ) ولا خصوصية ل ( عند ) بل ذلك في جميع الظروف غير المتصرفة .
وتكرير وصف { الرحمان } عقب الآية السابقة للوجه الذي ذكرنا في إيثار هذا الوصف في الآية السابقة .
وذيل هذا بالاعتراض بقوله : { إن الكافرون إلا في غرور } ، أي ذلك شأن الكافرين كلهم وهم أهل الشرك من المخاطبين وغيرهم ، أي في غرور من الغفلة عن توقع بأس الله تعالى ، أو في غرور من اعتمادهم على الأصنام فكما غَر الأمم السالفة دينُهم بأن الأوثان تنفعهم وتدفع عنهم العذاب فلم يجدوا ذلك منهم وقت الحاجة فكذلك سيقع لأمثالهم قال تعالى : { وللكافرين أمثالها } [ محمد : 10 ] وقال { أكفّاركُم خير من أولئكم } [ القمر : 43 ] فتعريف { الكافرون } للاستغراق . وليس المراد به كافرون معهودون حتى يكون من وضع المظهر موضع الضمير .
والغرور : ظن النفس وقوع أمر نافع لها بمخائل تتوهمها ، وهو بخلاف ذلك أو هو غير واقع . وتقدم في قوله تعالى : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } في آخر آل عمران ( 196 ) وقوله : { يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } في الأنعام ( 112 ) وقوله : { فلا تغرنكم الحياة الدنيا } في سورة فاطر ( 5 ) .
والظرفية مجازية مستعملة في شدة التلبس بالغرور حتى كأنَّ الغرور محيط بهم إحاطة الظرف .
والمعنى : ما الكافرون في حال من الأحوال إلاّ في حال الغرور ، وهذا قصر إضافي لقلب اعتقادهم أنهم في مأمن من الكوارث بحماية آلهتهم .