إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{أَمَّنۡ هَٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٞ لَّكُمۡ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ ٱلرَّحۡمَٰنِۚ إِنِ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} (20)

وقوله تعالَى : { أَم من هذا الذي هُوَ جُندٌ لكُمْ يَنصُرُكُمْ من دُونِ الرحمن } تبكيتٌ لهم بنفي أنْ يكونَ لهم ناصرٌ غيرُ الله تعالَى ، كما يلوحُ به التعرضُ لعنوانِ الرحمانيةِ ، ويعضُدهُ قولُه تعالَى : { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمان } [ سورة الملك ، الآية 19 ] أو ناصرٌ من عذابِهِ تعالَى ، كما هو الأنسبُ بما سيأتي من قولِه تعالَى : { إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } [ سورة الملك ، الآية 21 ] كقولِهِ تعالَى : { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ من دُونِنَا } [ سورة الأنبياء ، الآية 43 ] في المعنيينِ معاً خَلا أنَّ الاستفهامِ هُناكَ متوجهٌ إلى نفسِ المانعِ وتحققهِ ، وههُنا إلى تعيينِ الناصرِ لتبكيتِهِم بإظهارِ عجزِهِم عن تعيينِهِ ، وأم منقطعةٌ مقدرةٌ ببل المفيدةِ للانتقالِ من توبيخِهِم على تركِ التأملِ فيما يشاهدونَهُ من أحوالِ الطيرِ ، المنبئةِ عن تعاجيبِ آثارِ قدرةِ الله عزَّ وجلَّ ، إلى التبكيتِ بما ذُكِرَ . والالتفاتُ للتشديدِ في ذلكَ ، ولا سبيلَ إلى تقديرِ الهمزةِ معَها ، لأنَّ ما بعدَهَا مَنْ الاستفهاميةُ ، وهي مبتدأٌ وهذا خبرُهُ ، والموصولُ مع صلتِهِ صفتُهُ ، كما في قولِهِ تعالَى : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِندَهُ } [ سورة البقرة ، الآية 255 ] وإيثارُ هذا لتحقيرِ المشارِ إليهِ . وينصرُكُم صفةٌ لجندٌ باعتبارِ لفظِهِ ، ومن دونِ الرحمنِ ، على الوجهِ الأولِ ، إما حالٌ من فاعلِ ينصركُم ، أو نعتٌ لمصدرِهِ ، وعلى الثاني ، متعلقٌ بينصركم ، كما في قولِهِ تعالَى : { مَن يَنصُرُنِي مِنَ الله } [ سورة هود ، الآية 30 ] فالمَعْنَى : بلْ مَنْ هذا الحقيرُ الذي هُو في زعمِكُم جندٌ لكم ينصرُكُم ، متجاوزاً نصرَ الرحمنِ ، أو ينصرُكُم نصراً كائناً من دونِ نصرِهِ تعالَى ، أو ينصرُكُم من عذابٍ كائنٍ من عندِ الله عزَّ وجلَّ . وتوهمُ أنَّ أمَّ معادلةٌ لقولِهِ تعالَى : { أَوَلَمْ يَرَوا } [ سورة الملك ، الآية 19 ] الخ ، معَ القولِ بأنَّ مَنِ استفهاميةٌ ، مما لا تقريبَ له أصلاً . وقولُه تعالَى : { إِنِ الكافرون إِلاَّ فِي غُرُورٍ } اعتراضٌ مقررٌ لما قبلَهُ ، ناعِ عليهِم ما هُم فيهِ من غايةِ الضلالِ ، أي ما هُم في زعمِهِم أنَّهم محفوظونَ من النوائبِ بحفظِ آلهتِهِم ، لا بحفظِهِ تعالَى فقطْ ، أو أنَّ آلهتَهُم تحفظهُم من بأسِ الله ، إلا في غرورٍ عظيمٍ وضلالٍ فاحشٍ من جهةِ الشيطانِ ، ليسَ لهُم في ذلكَ شيءٌ يعتدُّ بهِ في الجملةِ . والالتفاتُ إلى الغيبةِ ، للإيذانِ باقتضاءِ حالِهِم ، للإعراضِ عنهُم ، وبيانِ قبائِحِهِم لغيرِهِم . والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لذمِّهِم بالكُفرِ ، وتعليلِ غرورِهِم بهِ .