قوله تعالى :{ أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا } أي : لا يرون أن العجل لا يكلمهم ولا يجيبهم إذا دعوه ، { ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً } وقيل : إن هارون مر على السامري وهو يصوغ العجل فقال له : ما هذا ؟ قال : أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي ، فقال هارون : اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه ، فألقى التراب في فم العجل وقال : كن عجلاً يخور فكان ذلك بدعوة هارون . والحقيقة أن ذلك كان فتنة ابتلى الله بها بني إسرائيل .
وقوله - تعالى - : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } تقريع لهم على جهلهم وغبائهم وسوء أدبهم .
والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، أى : ابلغ عمى البصيرة عند هؤلاء السفهاء أنهم لم يفطنوا إلى أن هذا العجل الذى اتخذوه إلها ، لا يستطيع أن يجيبهم إذا سألوه أو خاطبوه ، ولا يرد عليهم قولا يقولونه له ، ولا يملك لهم شيئا لا من الضر ولا من النفع .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ }
قال الله تعالى ردًّا عليهم ، وتقريعًا لهم ، وبيانًا لفضيحتهم وسخافة عقولهم فيما ذهبوا إليه : { أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا } أي : العجل { أَفَلا يَرَوْنَ } أنه لا يجيبهم إذا سألوه ، ولا إذا خاطبوه ، { وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا } أي : في دنياهم ولا في أخراهم .
قال ابن عباس رضي الله عنه{[19474]} لا والله ما كان خواره إلا أن يدخل الريح في دبره فيخرج فيه ، فيسمع له صوت .
وقد تقدم في متون الحديث{[19475]} عن الحسن البصري : أن هذا العجل اسمه بهموت .
وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط ، فألقوها عنهم ، وعبدوا العجل . فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير ، كما جاء في الحديث الصحيح عن ابن عمر : أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب - يعني : هل يصلي فيه أم لا ؟ - فقال ابن عمر ، رضي الله عنه :{[19476]} انظروا إلى أهل العراق ، قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني : الحسين - وهم يسألون عن دم البعوض ؟{[19477]} .
ثم قرن تعالى مواضع خطأهم بقوله تعالى : { أفلا يرون } المعنى أفلم يتبين هؤلاء الذين ضلوا أن هذا العجل إنما هو جماد لا يتكلم ولا يرجع قولاً ولا يضر ولا ينفع ، وهذه خلال لا يخفى معها الحدوث والعجز لا أن هذه الخلال لو حصلت له أوجبت كونه إلهاً وقرأت فرقة «أن لا يرجعُ » برفع العين ، «وأن » على هذه القراءة المخففة من الثقيلة والتقدير أنه لا يرجع ، وقرأت فرقة «أن لا يرجع »{[8148]} «وأن » على هذه القراءة هي الناصبة .
يجوز أن يكون اعتراضاً وليس من حكاية كلام القوم ، فهو معترض بين جملة { فكذلك ألقى السامريّ } [ طه : 87 ] وجملة { قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا ألاّ تتبعن } [ طه : 92 ، 93 ] الخ ، فتكون الفاء لتفريع كلاممِ متكلممٍ على كلام غيره ، أي لتفريع الإخبار لا لتفريع المخبر به ، والمخبِر متعدد . ويجوز أن يكون من حكاية كلام الذين تصدّوا لخطاب موسى عليه السلام من بين قومه وهم كبراؤهم وصلحاؤهم ليعلم أنهم على بصيرة من التوحيد .
والاستفهام : إنكاري ، نزلوا منزلة من لا يرى العجل لعدم جَرْيهم على موجَب البصر ، فأُنكر عليهم عدم رؤيتهم ذلك مع ظهوره ، أي كيف يدّعون الإلهية للعجل وهم يرون أنه لا يتكلم ولا يستطيع نفعاً ولا ضراً .
والرؤية هنا بصرية مكنى بها أو مستعملةً في مطلق الإدراك فآلت إلى معنى الاعتقاد والعلم ، ولا سيما بالنسبة لجملة { ولاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَراً ولا نَفْعاً } فإن ذلك لا يُرى بالبصر بخلاف { لا يرجع إليهم قولاً } . ورؤية انتفاء الأمرين مراد بها رؤية أثر انتفائهما بدوام عدم التكلّم وانتفاءِ عدم نفعهم وضرهم ، لأنّ الإنكار مسلّط على اعتقادهم أنه إلههم فيقتضي أن يملكَ لهم ضرّاً ونفعاً .
ومعنى { يَرْجِعُ } يَرُدّ ، أي يجيب القول ، لأن ذلك محل العبرة من فقدانه صفات العاقل لأنهم يَدْعُونه ويُثنون عليه ويمجدونه وهو ساكت لا يشكر لهم ولا يَعِدهم باستجابة ، وشأن الكامل إذا سمع ثناء أو تلقّى طِلبة أن يجيب . t ولا شك أن في ذلك الجمع العظيم من هو بحاجة إلى جلب نفع أو دفع ضرّ ، وأنهم يسألونه ذلك فلم يجدوا ما فيه نفعهم أو دفع ضر عنهم مثل ضر عدّو أو مرض . فهم قد شاهدوا عدم غنائه عنهم ، ولأن شواهد حاله من عدم التحرك شاهدة بأنه عاجز عن أن ينفع أو يضر ، فلذلك سلط الإنكار على عدم الرؤية لأنّ حاله مما يُرى .
ولامَ { لَهُمْ } متعلّق ب { يَمْلِكُ } الذي هو في معنى يستطيع كما تقدّم في قوله تعالى : { قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً } في سورة العقود . ( 76 ) .
وقدم الضرّ على النفع قطعاً لعُذرهم في اعتقاد إلهيته ، لأن عذر الخائف من الضرّ أقوى من عذر الراغب في النفع .
و ( أنْ ) في قوله ألاَّ يَرْجِعُ } مخفّفة من ( أنّ ) المفتوحة المشددة واسمها ضمير شأن محذوف ، والجملة المذكورة بعدها هي الخبر ، ف { يرجعُ مرفوع باتفاق القراءات ما عدا قراءات شاذة . وليست ( أنْ ) مصدرية لأن ( أن ) المصدرية لا تقع بعد أفعال العلم ولا بعد أفعال الإدراك .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره موبخا عَبَدة العجل، والقائلين له "هَذَا إلهُكُمْ وَإلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ"، وعابهم بذلك، وسفّه أحلامهم بما فعلوا ونالوا منه: أفلا يرون أن العجل الذي زعموا أنه إلهكم وإله موسى لا يكلمهم، وإن كلّموه لم يردّ عليهم جوابا، ولا يقدر على ضرّ ولا نفع، فكيف يكون ما كانت هذه صفته إلها؟
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
بَيَّنَ أَنَّ مَنْ لا قول له لا يتكلم، ومن لا يملك الضر والنفع لا يستحق العبادة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم قرن تعالى مواضع خطأهم بقوله تعالى: {أفلا يرون} المعنى: أفلم يتبين هؤلاء الذين ضلوا أن هذا العجل إنما هو جماد لا يتكلم ولا يرجع قولاً ولا يضر ولا ينفع، وهذه خلال لا يخفى معها الحدوث والعجز، لا أن هذه الخلال لو حصلت له أوجبت كونه إلهاً.
ثم إنه سبحانه بين المعنى الذي يجب الاستدلال به وهو قوله: {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا} أي لم يخطر ببالهم أن من لا يتكلم ولا يضر ولا ينفع لا يكون إلها ولا يكون للإله تعلق به في الحالية والمحلية... فهذا استدلال على عدم إلهيتها بأنها لا تتكلم ولا تنفع ولا تضر وهذا يدل على أن الإله لا بد وأن يكون موصوفا بهذه الصفات، وهو كقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا}.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{أَفَلاَ يَرَوْنَ...}، إنكار وتقبيحٌ من جهته تعالى لحال الضالّين والمُضلّين جميعاً وتسفيهٌ لهم فيما أقدموا عليه من المنكَر الذي لا يشتبه بطلانُه واستحالتُه على أحد وهو اتخاذُه إلها، والفاءُ للعطف على مقدر يقتضيه المقامُ، أي ألا يتفكرون فلا يعلمون {أَن لا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً} أي أنه لا يرجِعُ إليهم كلاماً ولا يرد عليهم جواباً، فكيف يتوهّمون أنه إله؟... وتعليقُ الإبصار بما ذُكر مع كونه أمراً عدمياً للتنبيه على كمال ظهورِه المستدعي لمزيد تشنيعِهم وتركيكِ عقولِهم..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ذلك فضلا على وضوح الخدعة: (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا) والمقصود أنه حتى لم يكن عجلا حيا يسمع قولهم ويستجيب له على عادة العجول البقرية! فهو في درجة أقل من درجة الحيوانية. وهو بطبيعة الحال لا يملك لهم ضرا ولا نفعا في أبسط صورة. فهو لا ينطح ولا يرفس ولا يدير طاحونة ولا ساقية!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يجوز أن يكون اعتراضاً وليس من حكاية كلام القوم، فهو معترض بين جملة {فكذلك ألقى السامريّ} [طه: 87] وجملة {قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا ألاّ تتبعن} [طه: 92، 93] الخ، فتكون الفاء لتفريع كلامِ متكلم على كلام غيره، أي لتفريع الإخبار لا لتفريع المخبر به، والمخبِر متعدد. ويجوز أن يكون من حكاية كلام الذين تصدّوا لخطاب موسى عليه السلام من بين قومه وهم كبراؤهم وصلحاؤهم ليعلم أنهم على بصيرة من التوحيد.
والاستفهام: إنكاري، نزلوا منزلة من لا يرى العجل لعدم جَرْيهم على موجب البصر، فأُنكر عليهم عدم رؤيتهم ذلك مع ظهوره، أي كيف يدّعون الإلهية للعجل وهم يرون أنه لا يتكلم ولا يستطيع نفعاً ولا ضراً.
والرؤية هنا بصرية مكنى بها أو مستعملةً في مطلق الإدراك فآلت إلى معنى الاعتقاد والعلم، ولا سيما بالنسبة لجملة {ولاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَراً ولا نَفْعاً} فإن ذلك لا يُرى بالبصر بخلاف {لا يرجع إليهم قولاً}. ورؤية انتفاء الأمرين مراد بها رؤية أثر انتفائهما بدوام عدم التكلّم وانتفاءِ عدم نفعهم وضرهم، لأنّ الإنكار مسلّط على اعتقادهم أنه إلههم فيقتضي أن يملكَ لهم ضرّاً ونفعاً.
ومعنى {يَرْجِعُ} يَرُدّ، أي يجيب القول، لأن ذلك محل العبرة من فقدانه صفات العاقل لأنهم يَدْعُونه ويُثنون عليه ويمجدونه وهو ساكت لا يشكر لهم ولا يَعِدهم باستجابة، وشأن الكامل إذا سمع ثناء أو تلقّى طِلبة أن يجيب. t ولا شك أن في ذلك الجمع العظيم من هو بحاجة إلى جلب نفع أو دفع ضرّ، وأنهم يسألونه ذلك فلم يجدوا ما فيه نفعهم أو دفع ضر عنهم مثل ضر عدّو أو مرض. فهم قد شاهدوا عدم غنائه عنهم، ولأن شواهد حاله من عدم التحرك شاهدة بأنه عاجز عن أن ينفع أو يضر، فلذلك سلط الإنكار على عدم الرؤية لأنّ حاله مما يُرى.
ولامَ {لَهُمْ} متعلّق ب {يَمْلِكُ} الذي هو في معنى يستطيع كما تقدّم في قوله تعالى: {قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً} في سورة العقود. (76).
وقدم الضرّ على النفع قطعاً لعُذرهم في اعتقاد إلهيته، لأن عذر الخائف من الضرّ أقوى من عذر الراغب في النفع.
...أي: أخبرونا بالطريق الذي يحملكم على الكفر، كأنها مسألة عجيبة لا يقبلها العقل ولا يقرها. ألم يخطر ببال هؤلاء الذين عبدوا العجل أنه لا يرد عليهم إن سألوه، ولا يملك لهم ضرا إن كفروا به، ولا نفعا إن آمنوا به وعبدوه.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهكذا ابتدأت رواسبهم الوثنية تتحرك، فهم يرون، لأول مرة، بعد هذه الرحلة الطويلة مع موسى، وثناً ينطلق في دائرتهم الاجتماعية، وقد كانوا سألوا موسى سابقاً عندما خرجوا من البحر فشاهدوا قوماً يعكفون على أصنام لهم، أن يجعل لهم إلهاً كما لهم آلهة، ولكن موسى قال لهم، {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]. وها هم يسقطون أمام التجربة في غياب موسى (عليه السلام) الذي يخافونه ويخشون غضبه، {فَقَالُواْ هَذَآ إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} ربما قالها السامري ومساعدوه، وربما قالها بعضهم لبعض، {فَنَسِىَ} في حكايتهم عن موسى الذي نسي إلهه هنا، فمضى يطلبه في الطور، أو عن السامري الذي نسي حقيقة الوحدانية في الإله الذي هو رب كل شيء. ويتدخل الوحي القرآني ليثير الإيحاءات التي تكشف زيف الموقف، لفقدان الأساس العقلي الذي يرتكز عليه في ما يملكه الإله من خصائص ذاتية من قدرة التحرك ووعي الأشياء، والتمكن من النطق على الأقل. ولكن هذا العجل لا يستطيع أن يستجيب، ولو بالإشارة، إلى من يدعوه، ولا يملك لهم أيّة قدرة على النفع والضرر، فكيف يتصورونه إلهاً لهم ولموسى بدلاً من الله الواحد الذي دعاهم موسى إليه ودلّهم عليه، {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} بل هو مجرد شيء جامد لا حياة فيه، مصنوع للإنسان، فكيف يكون صانعاً له؟ أو أن مسألة الإله لديهم تختلف عمّا هو في الوعي الدقيق للمسألة.