فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل ، ثم إن الله أحياهم فقاموا وعاشوا{[1757]} رجلٌ رجلٌ ، ينظر{[1758]} بعضهم إلى بعض : كيف يحيون ؟ قال : فذلك قوله تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
وقال الربيع بن أنس : كان موتهم عقوبة لهم ، فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم . وكذا قال قتادة .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن حميد ، حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، قال : لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل ، وقال لأخيه وللسامري ما قال ، وحَرّق العجل وذَرّاه في اليم ، اختار موسى منهم سبعين{[1759]} رجلا الخَيِّرَ فالخير ، وقال : انطلقوا إلى الله وتوبوا إلى الله مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم ، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم . فخرج بهم إلى طور سيناء{[1760]} لميقات وقَّتَه له ربه ، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعِلْم ، فقال له السبعون ، فيما ذكر لي ، حين صنعوا ما أمروا به وخرجوا للقاء الله ، قالوا : يا موسى ، اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا ، فقال : أفعل . فلما دنا موسى من الجبل ، وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله ، ودنا موسى فدخل فيه ، وقال للقوم : ادنوا . وكان موسى إذا كلمه الله{[1761]} وقع على جبهته نور ساطع ، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه ، فضرب دونه{[1762]} بالحجاب ، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا{[1763]} فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه : افعل ولا تفعل . فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام ، فأقبل إليهم ، فقالوا لموسى : { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } فأخذتهم الرجفة{[1764]} ، وهي الصاعقة ، فماتوا جميعًا . وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ، ويقول : { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ [ وَإِيَّايَ ] {[1765]} } [ الأعراف : 155 ] قد سفهوا ، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء منا ؟ أي : إن هذا لهم هلاك . اخترتُ منهم سبعين رجلا الخَيِّر فالخير ، أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد ! فما الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا ؟ { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل ، ويطلب إليه حتى ردّ إليهم أرواحهم ، وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل ، فقال : لا ؛ إلا أن يقتلوا أنفسهم{[1766]} .
وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير : لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل وتاب الله عليهم بقتل بعضهم بعضا كما أمرهم به ، أمر الله موسى أن يأتيه في كل أناس من بني إسرائيل ، يعتذرون إليه من عبادة العجل ، ووعدهم موسى ، فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عَينه ، ثم ذهب بهم ليعتذروا . وساق البقية .
[ وهذا السياق يقتضي أن الخطاب توجه إلى بني إسرائيل في قوله : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } والمراد السبعون المختارون منهم .
ولم يحك كثير من المفسرين سواه ، وقد أغرب فخر الدين الرازي في تفسيره حين حكى في قصة هؤلاء السبعين : أنهم بعد إحيائهم قالوا : يا موسى ، إنك لا تطلب من الله شيئا إلا أعطاك ، فادعه أن يجعلنا أنبياء ، فدعا بذلك فأجاب الله دعوته ، وهذا غريب جدا ، إذ لا يعرف في زمان موسى نبي سوى هارون ثم يوشع بن نون ، وقد غلط أهل الكتاب أيضًا في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل ، فإن موسى الكليم ، عليه السلام ، قد سأل ذلك فمنع منه فكيف يناله هؤلاء السبعون ؟
القول الثاني في الآية ]{[1767]} قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية : قال لهم موسى - لما رجع من عند ربه بالألواح ، قد كتب فيها التوراة ، فوجدهم يعبدون العجل ، فأمرهم بقتل أنفسهم ، ففعلوا ، فتاب الله عليهم ، فقال : إن هذه الألواح فيها كتاب الله ، فيه{[1768]} أمركم الذي أمركم به ونهيكم الذي نهاكم عنه . فقالوا : ومن يأخذه بقولك أنت ؟ لا والله حتى نرى الله جهرة ، حتى يطلع الله علينا فيقول : هذا كتابي فخذوه ، فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى ! وقرأ قول الله : { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } قال : فجاءت غضبة من الله ، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة ، فصعقتهم فماتوا أجمعون . قال : ثم أحياهم الله من بعد موتهم ، وقرأ قول الله : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فقال لهم موسى : خذوا كتاب الله . فقالوا : لا فقال : أي شيء أصابكم ؟ فقالوا : أصابنا أنا متنا ثم حَيِينا . قال{[1769]} : خذوا كتاب الله . قالوا : لا . فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم .
[ وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعد ما أحيوا . وقد حكى الماوردي في ذلك قولين : أحدهما : أنه سقط التكليف عنهم لمعاينتهم الأمر جهرة حتى صاروا مضطرين إلى التصديق ، والثاني : أنهم مكلفون لئلا يخلو عاقل من تكليف ، قال القرطبي : وهذا هو الصحيح لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم ؛ لأن بني إسرائيل قد شاهدوا أمورًا عظامًا من خوارق العادات ، وهم في ذلك مكلفون وهذا واضح ، والله أعلم ]{[1770]} .
ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 56 )
أجاب الله تعالى فيهم رغبة موسى عليه السلام وأحياهم من ذلك الهمود( {[626]} ) أو الموت ، ليستوفوا آجالهم ، وتاب عليهم ، والبعث هنا الإثارة كما قال الله تعالى : { من بعثنا من مرقدنا }( {[627]} ) [ يس : 52 ] .
وقال قوم : إنهم لما أحيوا وأنعم عليهم بالتوبة سألوا موسى عليه السلام أن يجعلهم الله أنبياء ، فذلك قوله تعالى : { ثم بعثناكم من بعد موتكم } أي أنبياء( {[628]} ) { لعلكم تشكرون } أي على هذه النعمة ، والترجي إنما هو في حق البشر ، ونزلت الألواح بالتوراة على موسى في تلك المدة ، وهذا قول جماعة ، وقال آخرون : إن الألواح نزلت في ذهابه الأول وحده .
وذكر المفسرون في تظليل الغمام : أن بني إسرائيل لما كان من أمرهم ما كان من القتل وبقي منهم من بقي حصلوا في فحص التيه( {[629]} ) بين مصر والشام ، فأمروا بقتال الجبارين فعصوا وقالوا : { فاذهب أنت وربك فقاتلا }( {[630]} ) [ المائدة : 24 ] فدعا موسى عليهم فعوقبوا بالبقاء في ذلك الفحص أربعين سنة يتيهون في مقدار خمسة فراسخ أو ستة ، روي أنهم كانوا يمشون النهار كله وينزلون للمبيت فيصبحون حيث كانوا بكرة أمس ، فندم موسى عليه السلام على دعائه ، عليهم ، فقيل له : { فلا تأس على القوم الفاسقين }( {[631]} ) [ المائدة : 26 ] .
وروي أنهم ماتوا بأجمعهم في فحص التيه ، ونشأ بنوهم على خير طاعة ، فهم الذين خرجوا من فحص التيه وقاتلوا الجبارين ، وإذ كان جميعهم في التيه قالوا لموسى : من لنا بالطعام ؟ قال : الله ، فأنزل الله عليهم المن والسلوى ، قالوا : من لنا من حر الشمس ؟ فظلل عليهم الغمام ، قالوا : بم نستصبح بالليل ؟ فضرب لهم عمود نور في وسط محلتهم ، وذكر مكي : عمود نار . فقالوا : من لنا بالماء ؟ فأمر موسى بضرب الحجر ، قالوا : من لنا باللباس ؟ فأعطوا أن لا يبلى لهم ثوب ولا يخلق ولا يدرن ، وأن تنمو صغارها حسب نمو الصبيان .