مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ثُمَّ بَعَثۡنَٰكُم مِّنۢ بَعۡدِ مَوۡتِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (56)

أما قوله تعالى : { ثم بعثناكم من بعد موتكم } لأن البعث قد [ لا ] يكون إلا بعد الموت ، كقوله تعالى : { فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا } فإن قلت : هل دخل موسى عليه السلام في هذا الكلام ؟ قلت : لا ، لوجهين . الأول : أنه خطاب مشافهة فلا يجب أن يتناول موسى عليه السلام . الثاني : أنه لو تناول موسى لوجب تخصيصه بقوله تعالى في حق موسى : { فلما أفاق } مع أن لفظة الإفاقة لا تستعمل في الموت ، وقال ابن قتيبة : إن موسى عليه السلام قد مات وهو خطأ لما بيناه . أما قوله تعالى : { لعلكم تشكرون } فالمراد أنه تعالى إنما بعثهم بعد الموت في دار الدنيا ليكلفهم وليتمكنوا من الإيمان ومن تلافي ما صدر عنهم من الجرائم ، أما أنه كلفهم فلقوله تعالى : { لعلكم تشكرون } ولفظ الشكر يتناول جميع الطاعات لقوله تعالى :

{ اعملوا آل داوود شكرا } فإن قيل : كيف يجوز أن يكلفهم وقد أماتهم ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكلف أهل الآخرة إذا بعثهم بعد الموت ؟ قلنا : الذي يمنع من تكليفهم في الآخرة ليس هو الإماتة ثم الإحياء ، وإنما يمنع من ذلك أنه قد اضطرهم يوم القيامة إلى معرفته وإلى معرفة ما في الجنة من اللذات وما في النار من الآلام وبعد العلم الضروري لا تكليف فإذا كان المانع هو هذا لم يمتنع في هؤلاء الذين أماتهم الله بالصاعقة أن لا يكون قد اضطرهم ، وإذا كان كذلك صح أن يكلفوا من بعد ويكون موتهم ثم الإحياء بمنزلة النوم أو بمنزلة الإغماء . ونقل عن الحسن البصري أنه تعالى قطع آجالهم بهذه الإماتة ثم أعادهم كما أحيا الذي أماته حين مر على قرية وهي خاوية على عروشها وأحيا الذين أماتهم بعدما خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت وهذا ضعيف لأنه تعالى ما أماتهم بالصاعقة إلا وقد كتب وأخبر بذلك فصار ذلك الوقت أجلا لموتهم الأول ثم الوقت الآخر أجلا لحياتهم .

وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى : { لعلكم تشكرون } على أنه تعالى يريد الإيمان من الكل فجوابنا عنه قد تقدم مرارا فلا حاجة إلى الإعادة .