البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ثُمَّ بَعَثۡنَٰكُم مِّنۢ بَعۡدِ مَوۡتِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (56)

البعث : الإحياء ، وأصله الإثارة ، قال الشاعر :

أنيخها ما بدا لي ثم أبعثها *** كأنها كاسر في الجو فتخاء

وقال آخر :

وفتيان صدق قد بعثت بسحرة *** فقاموا جميعاً بين عان ونشوان

وقيل : أصله الإرسال ، ومنه : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا } وتأتي بمعنى الإفاقة من الغشي أو النوم ، { وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم } والقدر المشترك بين هذه المعاني هو إزالة ما يمنع عن التصرف .

{ ثم بعثناكم من بعد موتكم } : معطوف على قوله : { أخذتكم الصاعقة } ، ودل العطف بثم على أن بين أخذ الصاعقة والبعث زماناً تتصوّر فيه المهلة والتأخير ، هو زمان ما نشأ عن الصاعقة من الموت ، أو الغشي على الخلاف الذي مرّ .

والبعث هنا : الإحياء ، ذكر أنهم لما ماتوا لم يزل موسى يناشد ربه في إحيائهم ويقول : يا رب إن بني إسرائيل يقولون قتلت خيارنا حتى أحياهم الله جميعاً رجلاً بعد رجل ، ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون .

وقيل : معنى البعث الإرسال ، أي أرسلناكم .

روي أنه لما أحياهم الله سألوا أن يبعثهم أنبياء فبعثهم أنبياء .

وقيل : معنى البعث : الإفاقة من الغشية ، ويتخرّج على قول من قال إنهم صعقوا ولم يموتوا .

وقيل : البعث هنا : القيام بسرعة من مصارعهم ، ومنه قالوا : { يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا } ؟ وقيل معنى البعث هنا ، التعليم ، أي ثم علمناكم من بعد جهلكم ، والموت هنا ظاهرة مفارقة الروح الجسد ، وهذا هو الحقيقة ، وكان إحياؤهم لأجل استيفاء أعمارهم .

ومن قال : كان ذلك غشياً وهموداً كان الموت مجازاً ، قال تعالى : { ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت } والذي أتاه مقدّماته سميت موتاً على سبيل المجاز ، قال الشاعر :

وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا *** قولاً يبرئكم إني أنا الموت

جعل نفسه الموت لما كان سبباً للموت ، وكذلك إذا حمل الموت على الجهل كان مجازاً ، وقد كنى عن العلم بالحياة ، وعن الجهل بالموت .

قال تعالى : { أو من كان ميتاً فأحييناه } وقال الشافعي ، رحمه الله :

إنما النفس كالزجاجة *** والعلم سراج وحكمة الله زيت

فإذا أبصرت فإنك حيّ *** وإذا أظلمت فإنك ميت

وقال ابن السيد :

أخو العلم حي خالد بعد موته *** وأوصاله تحت التراب رميم

وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى *** يظنّ من الأحياء وهو عديم

ولا يدخل موسى على نبينا وعليه السلام في خطاب ثم { بعثناكم } ، لأنه خطاب مشافهة للذين قالوا : { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } ، ولقوله : { فلما أفاق } ، ولا يستعمل هذا في الموت .

وأخطأ ابن قتيبة في زعمه أن موسى قد مات { لعلكم تشكرون } : وفي متعلق الشكر أقوال ينبني أكثرها على المراد بالبعث والموت .

فمن زعم أنهما حقيقة قال : المعنى لعلكم تشكرون نعمته بالإحياء بعد الموت ، أو على هذه النعمة وسائر نعمه التي أسداها إليهم ، ومن جعل ذلك مجازاً عن إرسالهم أنبياء ، أو إثارتهم من الغشي ، أو تعليمهم بعد الجهل ، جعل متعلق الشكر أحد هذه المجازات .

وقد أبعد من جعل متعلق الشكر إنزال التوراة التي فيها ذكر توبته عليهم وتفصيل شرائعه ، بعد أن لم يكن شرائع .

وقيل : المعنى لعلكم تشكرون نعمة الله بعدما كفرتموها إذا رأيتم بأس الله في رميكم بالصاعقة وإذاقتكم الموت .

وقال في المنتخب : إنما بعثهم بعد الموت في دار الدنيا ليكلفهم وليتمكنوا من الإيمان ومن تلافي ما صدر عنهم من الجرائم .

أمّا أنه كلفهم ، فلقوله : { لعلكم تشكرون } .

ولفظ الشكر يتناول جميع الطاعات لقوله : { اعملوا آل داود شكراً } انتهى كلامه .

وقال الماوردي : اختلف في بقاء تكليف من أعيد بعد موته ، ومعاينة الأهوال التي تضطره وتلجئه إلى الاعتراف بعد الاقتراف .

فقال قوم : سقط عنهم التكليف ليكون تكليفهم معتبراً بالاستدلال دون الاضطرار .

وقال قوم : يبقى تكليفهم لئلا يخلو بالغ عاقل من تعبد ، ولا يمنع حكم التكليف بدليل قوله تعالى : { وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة } وذلك حين أبوا أو يقبلوا التوراة ، فلما نتق الجبل فوقهم آمنوا وقبلوها ، فكان إيمانهم بها إيمان اضطرار ، ولم يسقط عنهم التكليف ، ومثلهم قوم يونس في إيمانهم .

اه كلامه .

/خ57