الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{ثُمَّ بَعَثۡنَٰكُم مِّنۢ بَعۡدِ مَوۡتِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (56)

الرابعة : قوله تعالى : { ثم بعثناكم من بعد موتكم } أي أحييناكم . قال قتادة : ماتوا وذهبت أرواحهم ، ثم ردوا لاستيفاء آجالهم . قال النحاس : وهذا احتجاج على من لم يؤمن بالبعث من قريش ، واحتجاج على أهل الكتاب إذ خبروا بهذا . والمعنى : " لعلكم تشكرون " ما فعل بكم من البعث بعد الموت . وقيل : ماتوا موت همود يعتبر به الغير ، ثم أرسلوا .

وأصل البعث الإرسال . وقيل : بل أصله إثارة الشيء من محله ، يقال : بعثت الناقة : أثرتها ، أي حركتها ، قال امرؤ القيس :

وفتيانِ صدقٍ قد بَعَثْتُ بسُحْرَةٍ{[771]} *** فقاموا جميعا بين عاثٍ ونشوان

وقال عنترة :

وصحابةٍ شمِّ الأنوفِ بعثتهم *** ليلا وقد مال الكَرَى بِطُلاَهَا{[772]}

وقال بعضهم : " بعثناكم من بعد موتكم " [ البقرة : 56 ] علمناكم من بعد جهلكم .

قلت : والأول أصح ، لأن الأصل الحقيقة ، وكان موت عقوبة ، ومنه قوله تعالى : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم " على ما يأتي{[773]} [ البقرة : 243 ]

الخامسة : قال الماوردي : واختلف في بقاء تكليف من أعيد بعد موته ومعاينة الأحوال المضطرة إلى المعرفة على قولين : أحدهما : بقاء تكليفهم لئلا يخلو عاقل من تعبد . الثاني : سقوط تكليفهم معتبرا بالاستدلال دون الاضطرار .

قلت : والأول أصح ، فإن بني إسرائيل قد رأوا الجبل في الهواء ساقطا عليهم والنار محيطة بهم ، وذلك مما اضطرهم إلى الإيمان ، وبقاء التكليف ثابت عليهم ، ومثلهم قوم يونس . ومحال أن يكونوا غير مكلفين والله أعلم .


[771]:السحرة (بضم أوله): السحر. وقيل: أعلى السحر.وقيل: هو من ثلث الليل الآخر إلى طلوع الفجر.
[772]:الطلى (بضم ففتح): الأعناق.
[773]:راجعه ج 3 ص 230.