نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{ثُمَّ بَعَثۡنَٰكُم مِّنۢ بَعۡدِ مَوۡتِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (56)

ولما كان إحياؤهم من ذلك في الدار في غاية البعد وخرق العادة عبر عنه بأداة التراخي ومظهر العظمة فقال { ثم بعثناكم } أي{[2466]} بما لنا من العظمة{[2467]} بالإحياء{[2468]} .

قال الحرالي : من البعث وهو الاستثارة{[2469]} من غيب وخفاء ، أشده البعث من القبور ، ودونه البعث من النوم ؛ قال : وتجاوز الخطاب ما كان من سبب بعثهم ، وكذلك كل موضع يقع فيه ثم ، ففيه خطاب متجاوز مديد{[2470]} الأمد كثير رتب العدد مفهوم لمن استوفى مقاصد ما وقعت كلمة ثم ، بينه من الكلامين المتعاطفين ؛ ففي{[2471]} معنى التجاوز من الخطاب سؤال موسى عليه السلام ربه في بعثهم حتى لا يكون ذلك فتنة على سائرهم - انتهى .

ولما كان ربما ظن أن البعث من غشى ونحوه حقق{[2472]} معناه{[2473]} مبيناً أنه لم يستغرق زمن البعد{[2474]} بقوله : { من بعد موتكم } أي هذا بتلك الصاعقة ، وقال دالاً على أن البعث إلى هذه الدار لا يقطع ما بنيت عليه من التكليف{[2475]} لأنها دار الأكدار فلا بد من تصفية الأسرار فيها بالأعمال والأذكار .

{ لعلكم تشكرون } أي لتصير{[2476]} حالكم حال من يصح ترجي شكره لهذه النعمة العظيمة ، وكل ما جاء من لعل ، المعلل بها أفعال الرب تبارك وتعالى ينبغي أن تؤول بنحو هذا ، فإن لعل ، تقتضي الشك لأنها للطمع والإشفاق فيطمع في كون مدخولها ويشفق من أن لا يكون ، و{[2477]}تارة {[2478]}يكون الشك للمخاطب وتارة{[2479]} يكون للمتكلم ، ولو قيل{[2480]} : لتشكروا ، لم يكن هناك شك - قاله الرماني في سورة يوسف عليه السلام .

وقال الحرالي : وفي لعل ، إبهام معلومه فيهم بأن منهم من يشكر ومنهم من لا يشكر - انتهى . وسيأتي في سورة طه إن شاء الله تعالى عن نص سيبويه في كتابه ما يؤيد{[2481]} ما ذكرته .

وفي هذه الآية وما تقدمها من آية { واتقوا يوماً لا تجزي نفس } تنبيه للعرب من غفلتهم في إنكار البعث وإرشاد إلى سؤال ممن{[2482]} يغرّهم من أهل الكتاب بأنهم أولى بالحق من المسلمين عن هذه القصة التي وقعت لأسلافهم من إحيائهم بعد موتهم ، وكذا ما أتى في محاوراتهم من قصة البقرة ونحوها مما فيه ذكر الإحياء في هذه الدار أو في القيامة . قال الحرالي : وفيه أي هذا الخطاب آية على البعث الآخر الذي وعد به جنس بني آدم كلهم فجأة صعق وسرعة بعث ، فإن ما صح لأحدهم {[2483]}ولطائفة{[2484]} منهم أمكن عمومه في كافتهم - انتهى .


[2466]:ليست في ظ.
[2467]:ليست في ظ.
[2468]:قال المهائمي: "وأنتم تنظرون" إليها ولم يمكنكم الفرار عنها فأحرقتكم فدعا موسى وبكى وتضرع وقال: يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم. قال أبو حيان: وقد عد صاحب المنتخب هذا إنعاما سادسا وذكر في كونه إنعاما وجوها (فليطلب من يريد الاطلاع عليها في البحر المحيط 1 / 112) وقال بعضهم: لما أحلهم الله محل مناجاته وأسمعهم لذيذ خطابه اشرأبت نفوسهم للفخر وعلو المنزلة فعاملهم الله بنقيض ما حصل في أنفسهم بالصعقة التي هي خضوع وتذلل تأديبا لهم وعبرة لغيرهم "إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار" "ثم بعثناكم" دل العطف بثم على أن بين أخذ الصاعقة والبعث زمانا تتصور فيه المهلة والتأخير هو زمان ما نشأ عن الصاعقة من الموت أو الغشي، والبعث هنا الإحياء. ذكر أنهم لما ماتوا لم يزل موسى يناشد ربه في إحيائهم ويقول: يا رب إن بني إسرائيل يقولون: قتلت خيارنا حتى أحياهم الله جميعا رجلا بعد رجل ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون. وكان إحياؤهم لأجل استيفاء أعمارهم، ومن قال: كان ذلك غشيا وهمودا كان الموت مجازا، قال تعالى "ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت" والذي أتاه مقدمات الموت سميت موتأ على سبيل المجاز، قال الشاعر: وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا قولا يبرئكم إني أنا الموت. جعل نفسه الموت لما كان سببا للموت.
[2469]:من م ومد وظ: وفي الأصل: الاستنارة – كذا.
[2470]:من م ومد وظ، وفي الأصل: مديدا.
[2471]:في م: نفى.
[2472]:في ظ: يحقق – كذا.
[2473]:سقطت من ظ.
[2474]:سقطت من ظ.
[2475]:وقال في المنتخب: إنما بعثهم بعد الموت في دار الدنيا ليكلفهم وليتمكنوا من الإيمان ومن تلافي ما صدر عنهم من الجرائم، أما إنه كلفهم فلقوله "لعلكم تشكرون" ولفظ الشكر يتناول جميع الطاعات لقوله "اعلموا آل داود شكرا" انتهى كلامه. وقال الماوردي: اختلف في بقاء تكليف من أعيد بعد موته ومعاينة الأهوال التي تضطره وتلجئه إلى الاعتراف بعد الاقتراف فقال قوم: سقط عنهم التكليف ليكون تكليفهم معتبرا بالاستدلال دون الاضطرار، وقال قوم: يبقى تكليفهم لئلا يخلو بالغ عاقل من تعبد ولا يمنع حكم التكليف بدليل قوله تعالى "وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة" وذلك حين أبوا أن يقبلوا التوراة فلما نتق الجبل فوقهم آمنوا وقبلوا فكان إيمانهم بها إيمان اضطرار ولم يسقط عنهم التكليف، ومثلهم قوم يونس في إيمانهم – انتهى كلامه.
[2476]:في م: ليكون.
[2477]:ليس في م.
[2478]:ليست في م.
[2479]:ليست في م.
[2480]:في م: قال.
[2481]:في ظ: يولد – كذا.
[2482]:في م ومد: من.
[2483]:في م: أو طايفة.
[2484]:في م: أو طايفة.