ثم بين عجزهم فقال : { ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها } قرأ أبو جعفر بضم الطاء هنا ، وفي القصص ، والدخان ، وقرأ الآخرون بكسر الطاء .
قوله تعالى : { أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها } ، أراد أن قدرة المخلوقين تكون بهذه الجوارح والآلات ، وليست للأصنام هذه الآلات ، فأنتم مفضلون عليها بالأرجل الماشية ، والأيدي الباطشة ، والأعين الباصرة ، والآذان السامعة ، فكيف تعبدون من أنتم أفضل وأقدر منهم ؟
قوله تعالى : { قل ادعوا شركاءكم } ، يا معشر المشركين .
قوله تعالى : { ثم كيدون } ، أنتم وهم .
قوله تعالى : { فلا تنظرون } ، أي : لا تمهلوني ، واعجلوا في كيدي .
194 - 196 إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ .
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نزلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ .
وهذا من نوع التحدي للمشركين العابدين للأوثان ، يقول تعالى : إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ أي : لا فرق بينكم وبينهم ، فكلكم عبيد للّه مملوكون ، فإن كنتم كما تزعمون صادقين في أنها تستحق من العبادة شيئا فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فإن استجابوا لكم وحصلوا مطلوبكم ، وإلا تبين أنكم كاذبون في هذه الدعوى ، مفترون على اللّه أعظم الفرية ، وهذا لا يحتاج إلى التبيين فيه ، فإنكم إذا نظرتم إليها وجدتم صورتها دالة على أنه ليس لديها من النفع شيء ، فليس لها أرجل تمشي بها ، ولا أيد تبطش بها ، ولا أعين تبصر بها ، ولا آذان تسمع بها ، فهي عادمة لجميع الآلات والقوى الموجودة في الإنسان .
فإذا كانت لا تجيبكم إذا دعوتموها ، وهي عباد أمثالكم ، بل أنتم أكمل منها وأقوى على كثير من الأشياء ، فلأي شيء عبدتموها .
قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ أي : اجتمعوا أنتم وشركاؤكم على إيقاع السوء والمكروه بي ، من غير إمهال ولا إنظار{[336]} فإنكم غير بالغين لشيء من المكروه بي .
{ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } .
الاستفهام للإنكار ، والمعنى : أن هذه الأصنام التي تعمون أنها تقربكم إلى الله زلفى هى أقل منكم مستوى لفقدها الحواس التي هى مناط الكسب إنها ليس لها أرجل تسعى بها إلى دفع ضر أو جلب نفع ؛ وليس لها أيد : تبطش بها أى تأخذ بها ما تريد أخذه ، وليس لها أعين تبصر بها شئونكم وأحوالكم وليس لها آذان تسمع بها أقوالكم ، وتعرف بواسطتها مطالبكم ، فأنتم أيها الناس تفضلون هذه الأصنام بما منحكم الله - تعالى - من حواس السمع والبصر وغيرها فكيف يعبد الفاضل المفضول ، وكيف ينقاد الأقوى للاضعف ؟
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يناصبهم الحجة وأن يكرر عليهم التوبيخ فقال : { قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ } أى : قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء الذين هبطوا بعقولهم إلى أحد المستويات نادوا شركاءكم الذين زعمتموهم أولياء ثم تعاونوا أنتم وهم على كيدى وإلحاق الضر بى من غير انتظار أو إمهال ، فإنى أنا معتز بالله ، ولمتجىء إلى حماه ومن كان كذلك فلن يخشى شيئا من المخلوقين جميعا .
وهذا نهاية التحدى من جانب الرسول صلى الله عليه وسلم لهم والحط من شأنهم وشأن آلهتهم .
وقوله : { قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ }{[12532]} أي : استنصروا بها علي ، فلا تؤخروني طرفة عين ، واجهدوا جهدكم !
ثم عاد عليه بالنقض فقال : { ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيدٍ يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها } وقرئ { إن الذين } بتخفيف { أن } ونصب { عباد } على أنها نافية عملت عمل ما الحجازية ولم يثبت مثله ، و{ يبطشون } بالضم ها هنا وفي " القصص " و " الدخان " . { قل ادعوا شركاءكم } واستعينوا بهم في عداوتي { ثم كيدون } فبالغوا فيما تقدرون عليه من مكر ، وهي أنتم وشركاؤكم . { فلا تنظرون } فلا تمهلون فإني لا أبالي بكم لوثوقي على ولاية الله تعالى وحفظه .
وقوله تعالى : { ألهم أرجل } الآية ، الغرض من هذه الآية ، ألهم حواس الحي وأوصافه ؟ فإذا قالوا لا ، حكموا بأنها جمادات فجاءت هذه التفصيلات لذلك المجمل الذي أريد التقرير عليه فإذا وقع الإقرار بتفصيلات القضية لزم الإقرار بعمومها وكان بيانها أقوى ولم تبق بها استرابة ، قال الزهراوي : المعنى أنتم أفضل منهم بهذه الجوارح النافعة فكيف تعبدونهم ؟
قال القاضي أبو محمد : و «تتقون » بهذا التأويل قراءة سعيد بن جبير ، إذ تقتضي أن الأوثان ليست عباداً كالبشر .
وقوله في الآية { أم } إضراب لكل واحدة عن الجملة المتقدمة لها ، وليست «أم » المعادلة للألف في قوله أعندك زيد أم عمرو ؟ لأن المعادلة إنما هي في السؤال عن شيئين أحدهما حاصل ، فإذا وقع التقدير على شيئين كلاهما منفي ف «أم » إضراب عن الجملة الأولى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي فرق معنوي ، وأما من جهة اللفظ والصناعة النحوية فهي هي ، وقرأ نافع والحسن والأعرج «يبطِشون » بكسر الطاء وقرأ نافع أيضاً وأبو جعفر وشيبة «يبطُشون » بضمها ، ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعجزهم بقوله { قل ادعوا شركاءكم } أي استنجدوهم إلى إضراري وكيدي ولا تؤخروني ، المعنى فإن كانوا آلهة فسيظهر فعلهم ، وسماهم شركاءهم من حيث لهم نسبة إليهم بتسميتهم إياهم آلهة وشركاء لله ، وقرأ أبو عمرو ونافع «كيدوني » بإثبات الياء في الوصل ، وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «كيدون » بحذف الياء في الوصل والوقف ، قال أبو علي : إذا أشبه الكلام المنفصل أو كان منفصلاً أشبه القافية وهم يحذفون الياء في القافية كثيراًً قد التزموا ذلك ، كما قال الأعشى : [ المتقارب ]
فهل يمنعني ارتيادي البلا*** د من حذر الموت أن يأتين
وقد حذفوا الياء التي هي لام الأمر كما قال الأعشى : [ الرمل ]
يلمس الأحلاس في منزله*** بيديه كاليهودي المصل
وقوله { فلا تنظرون } أي لا تؤخرون ، ومنه قوله تعالى : { فنظرة إلى ميسرة } .