ثم فصل - سبحانه - ما عوقبوا به من العذاب البئيس الذي أصابهم فقال تعالى : { فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } أى فلما تكبروا عن ترك ما نهاهم عنه الواعظون ، قلنا لهم كونوا قردة صاغرين فكانوا كذلك .
قال الآلوسى : ( والأمر في قوله تعالى { قُلْنَا } تكوينى لا تكليفى ، لأنه ليس في وسعهم حتى يكلفوا به ، وهذا كقوله تعالى { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } في أنه يحتمل أن يكون هناك قول وأن يكون الغرض مجرد التمثيل ) .
وقيل في تفسير الآية : إن الله تعالى - عاقب القوم أو لا بالعذاب البئيس الذي يتناول البؤس والشقاء والفقر في المعيشة ، فلما لم يرتدعوا ويثوبوا إلى رشدهم ، مسخهم مسخا خِلقيا وجسميا ، فكانوا قردة على الحقيقة ، وهو الظاهر من الآية ، وعليه الجمهور :
وقيل : مسخهم مسخاً خُلقياً ونفسياً ، فصاروا كالقردة في شرورها وإفسادها لما تصل إليه أيديها ، وهذا مروى عن مجاهد .
وتلك العقوبة كانت جزاء إمعانهم في المعاصى ، وتأبيهم عن قبول النصحية ، وضعف إرادتهم أمام مقاومة أطماعهم ، وانتكاسهم إلى عالم الحيوان لتخليهم عن خصائص الإنسان ، فكانوا حيث أرادوا لأنفسهم من الصغار والهوان .
هذا وقد استدل العلماء بهذه الآيات الكريمة على تحريم الحيل القبيحة التي يتخذها بعض الناس ذريعة للتوصل إلى مقاصدهم الذميمة . وغاياتهم الدنيئة ومطامعهم الخسيسة .
وقد أفاض الإمام ابن القيم في كتابه ( إغاثة اللهفان ) في إيراد الأدلة الدالة على هذا التحريم ، فقال ما ملخصه : ( ومن مكايد الشيطان التي كاد بها الإسلام وأهله ، الحيل والمكر والخداع الذي يتضمن تحليل ما حرم الله وإسقاط ما فرضه ، ومضادته في أمره ونهيه ، وهى من الباطل الذي اتفق السلف على ذمه ، فإن الرأى رأيان : رأى يوافق النصوص وتشهد له بالصحة والاعتبار ، وهو الذي اعتبره السلف وعملوا به . ورأى يخالف النصوص وتشهد له بالإبطال والإهدار ، وهو الذي ذموه وأهدروه .
وكذلك الحيل نوعان : نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله - تعالى - به وترك ما نهى عنه ، والتخلص من الحرام وتخليص المحق من الظالم المانع له ، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغى ، فهذا النوع محمود يثاب فاعله ومعلمه . ونوع يتضمن إسقاط الواجبات ، وتحليل المحرمات ، وقلب المظلوم ظالما ، والظالم مظلوما ، والحق باطلا ، والباطل حقا . فهذا الذي اتفق السلف على ذمه ، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض . . ثم قال :
إن الله تعالى أخبر عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردة ، لما تحايلوا على إباحة ما حرمه الله تعالى - عليهم من الصيد ، بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة ، فلما وقع فيها الصيد ، أخذوه يوم الأحد .
قال بعض الأئمة : ففى هذا زجر عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهى الشرعية ، ممن يتلبس بعلم الفقه وهو غير فقيه ، إذ الفقيه من يخشى الله - تعالى - بحفظ حدوده ، وتعظيم حرماته ، والوقوف عندها ، وليس المتحيل على إباحة محارمه ، وإسقاط فرائضه ، ومعلوم أنهم لم يستحلوا ذلك تكذيباً لموسى - عليه السلام - وكفراً بالتوراة ، وإنما هو استحلال تأويل واحتيال ، ظاهرة ظاهر الإيفاء ، وباطنه باطن الاعتداء ، ولهذا مسخوا قردة ، لأن صورة القردة فيها شبه من صورة الإنسان ، فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله تعالى بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض مظاهره دون حقيقته ، مسخهم سبحانه قردة يشبهونهم في بعض ظواهرهم دون الحقيقة جزاء وفاقا ، وفى الحديث الشريف " لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود ، وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل "
وفى الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
" قاتل الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها "
وعن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال : " بلغ عمر - رضى الله عنه - أن سمرة باع خمراً فقال : قاتل الله سمره . ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فجملوها - أى أذبواها - فباعوها ) .
وبهذا تكون الآيات الكريمة قد دمغت العادين في السبت من اليهود ، برذيلة الجهالة وضعف الإرادة ، وتحايلهم القبيح على استحلال محارم الله ، مما جعلهم أهلا للعذاب الشديد والمسخ الشنيع ، جزاء إمعانهم في المعصية وصممهم عن سماع الموعظة ، وما ربك بظلام للعبيد .
قال تعالى : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ } أي : فلما أبى الفاعلون المنكر قبول النصيحة ، { أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا } أي : ارتكبوا المعصية { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } فنص على نجاة الناهين وهلاك الظالمين ، وسكت عن الساكتين ؛ لأن الجزاء من جنس العمل ، فهم لا يستحقون مدحا فيمدحوا ، ولا ارتكبوا عظيما فيذموا ،
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَماّ عَتَوْاْ عَن مّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : فلما تمرّدوا فيما نهوا عنه من اعتدائهم في السبت ، واستحلالهم ما حرّم الله عليهم من صيد السمك وأكله وتمادوا فيه قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ : أي بُعداء من الخير .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَلَمّا عَتَوْا عَمّا نُهُوا عَنْهُ يقول : لما مرد القوم على المعصية . قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ فصاروا قردة لها أذناب تَعَاوَى بعد ما كانوا رجالاً ونساء .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فَلَمّا عَتَوْا عَمّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ فجعل الله منهم القردة والخنازير . فزعم أن شباب القوم صاروا قردة ، وأن المشيخة صاروا خنازير .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحمانيّ ، قال : حدثنا شريك ، عن السديّ ، عن أبي مالك أو سعيد بن جبير ، قال : رأى موسى عليه السلام رجلاً يحمل قصبا يوم السبت ، فضرب عنقه .
( العتو ) تقدم عند قوله تعالى : { فعقروا الناقة وعَتوا عن أمر ربهم } في هذه السورة ( 77 ) .
وقوله : { قلنا لهم كونوا قردة خاسئين } تقدم القول في نظيره عند قوله تعالى : { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين } في سورة البقرة ( 65 ) ، ولأجل التشابه بين الآيتين ، وذكر العدْوِ في السبت فيهما ، وذكرِه هنا في الإخبار عن القرية ، جزم المفسرون بأن الذين نسوا مَا ذكروا به وعتوا عما نهوا عنه هم أهل هذه القرية ، وبأن الأمة القائلة { لم تعظون قوماً } هي أمة من هذه القرية فجزموا بأن القصة واحدة ، وهذا وإن كان لا ينبو عنه المقام ، كما أنه لا يمنعُ تشابه فريقين في العذاب ، فقد بينتُ أن ذلك لا ينافي جعل القصة في معنى قصتين من جهة الاعتبار .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلما تمرّدوا فيما نهوا عنه من اعتدائهم في السبت، واستحلالهم ما حرّم الله عليهم من صيد السمك وأكله وتمادوا فيه "قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ": أي بُعداء من الخير... فصاروا قردة لها أذناب تَعَاوَى بعد ما كانوا رجالاً ونساء...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله تعالى:"كونوا قردة" صيغته صيغة الأمر، والمراد به الإخبار: من أنه جعلهم قردة على وجه يسهل عليه ولم يتعب به ولم ينصب...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا انتهت مدةُ الإمهال فليس بعده إلا حقيقة الاستئصال، وإذا سقط العبدُ من عين الله لم ينتعشْ بعده أبداً...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{فلما عتوا} أي طغوا واستكبروا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَلَمَّا عَتَوْاْ عَمَّا نُهُواْ عَنْهُ} فلما تكبروا عن ترك ما نهوا عنه، كقوله: {وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ} [الأعراف: 77]، {قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً} عبارة عن مسخهم قردة، كقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] والمعنى: أنّ الله تعالى عذبهم أوّلاً بعذاب شديد، فعتوا بعد ذلك فمسخهم. وقيل: فلما عتوا، تكرير لقوله: {فَلَمَّا نَسُواْ} والعذاب البئيس: هو المسخ.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله: {بما كانوا يفسقون} أي لأجل ذلك وعقوبة عليه، و «العتو» الاستعصاء وقلة الطواعية، وقوله: {قلنا لهم} يحتمل أن يكون قولاً بلفظ من ملك أسمعهم ذلك فكان أذهب في الإغراب والهوان والإصغار، ويحتمل أن يكون عبارة عن المقدرة المكونة لهم قردة، وخاسئين: مبعدين...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر ما هددهم به من العذاب الشديد، أتبعه الهلاك فقال: {فلما عتوا} أي تكبروا جلافة ويبساً عن الانتهاء {عن ما نهوا عنه} أي بعد الأخذ بالعذاب الشديد، وتجاوزوا إلى الاجتراء على جميع المعاصي عناداً وتكبراً بغاية الوقاحة وعدم المبالاة، كان مواقعتهم لذلك الذنب وإمهالهم مع الوعظ أكسبتهم ذلك وغلظت أكبادهم عن الخوف بزاجر العذاب، من عتا يعتو عتواً -إذا أقبل على الآثام، فهو عات، قال عبد الحق في كتابة الواعي: وقيل إذا أقدم على كل أموره، ومنه هذه الآية، وقيل: العاتي هو المبالغ في ركوب المعاصي، وقيل: المتمرد الذي لا ينفع فيه الوعظ والتنبيه، ومنه قوله سبحانه {فعتوا عن أمر ربهم} أي جاوزوا المقدار والحد في الكفر- انتهى. وحقيقته: جاوزوا الأمر إلى النهي، أو جاوزوا الائتمار بأمره، والمادة ترجع إلى الغلظ والشدة والصلابة {قلنا لهم} أي بما لنا من القدرة العظيمة {كونوا قردة} أي في صورة القردة حال كونكم {خاسئين} أي صاغرين مطرودين بعيدين عن الرحمة كما يبعد الكلب...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فلما عتوا عما نهوا عنه} أي فلما عتوا عن أمر ربهم عتو إباء واستكبار عن ترك ما نهاهم عنه الواعظون {قلنا لهم كونوا قردة خاسئين} هذا القول للتكوين أي تعلقت إرادتنا بأن يكونوا قردة خاسئين أي صاغرين أذلاء فكانوا كذلك.
قيل: إن هذا بيان وتفصيل للعذاب البئيس في الآية السابقة، وقيل: هو عذاب آخر، وإن الله عاقبهم أولا بالبؤس والشقاء في المعيشة، لأن من الناس من لا يربيه ويهذبه إلا الشدة والبؤس، كما أن منهم من يربيه ويهذبه الرخاء والنعمة، وبكل يبتلي الله عباده ويمتحنهم كما قال: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء: 35] وقال في بني إسرائيل {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} [الأعراف: 168] ولكن هؤلاء القوم لم يزدهم البؤس والسوء إلا عتوا وإصرارا على الفسق والظلم فدمدم عليهم ربهم بذنبهم، ومسخهم مسخ خلق وبدن فكانوا قردة بالفعل، أو مسخ خلق ونفس، فكانوا كالقردة في طيشها وشرها، وإفسادها لما تصل إليه أيديها. والأول قول الجمهور والثاني قول مجاهد قال: مسخت قلوبهم فلم يوفقوا لفهم الحق.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
كان ذلك العذاب البئيس هو المسخ عن الصورة الآدمية إلى الصورة القردية! لقد تنازلوا هم عن آدميتهم، حين تنازلوا عن أخص خصائصها -وهو الإرادة التي تسيطر على الرغبة- وانتكسوا إلى عالم "الحيوان "حين تخلوا عن خصائص "الإنسان". فقيل لهم أن يكونوا حيث أرادوا لأنفسهم من الانتكاس والهوان! أما كيف صاروا قردة؟ وكيف حدث لهم بعد أن صاروا قردة؟ هل انقرضوا كما ينقرض كل ممسوخ يخرج عن جنسه؟ أم تناسلوا وهم قردة؟... إلى آخر هذه المسائل التي تتعدد فيها روايات التفسير... فهذا كله مسكوت عنه في القرآن الكريم؛ وليس وراءه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء.. فلا حاجة بنا نحن إلى الخوض فيه.