إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{فَلَمَّا عَتَوۡاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنۡهُ قُلۡنَا لَهُمۡ كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِـِٔينَ} (166)

أي تمرّدوا وتكبروا وأبَوا أن يترُكوا ما نُهوا عنه { قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين } صاغرين أذلأَ بُعَداءَ عن الناس ، والمرادُ بالأمر هو الأمرُ التكوينيُّ لا القولي ، وترتيبُ المسخِ على العتو عن الانتهاء عما نهوا عنه للإيذان بأنه ليس لخصوصية الحوتِ بل العُمدةُ في ذلك هو مخالفةُ الأمر والاستعصاءُ عليه تعالى . وقيل : المرادُ بالعذاب البئيس هو المسخُ والجملةُ الثانية تقريرٌ للأولى . روي أن اليهودَ أُمروا باليوم الذين أُمرنا به وهو يومُ الجمعة فتركوه واختاروا السبت وهو المعنيُّ بقوله تعالى : { إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ } [ النحل ، الآية 124 ] فابتُلوا به وحُرّم عليهم الصيدُ فيه وأُمروا بتعظيمه فكانت الحيتانُ تأتيهم يوم السبت كأنها المخاضُ لا يُرى وجهُ الماء لكثرتها ولا تأتيهم في سائر الأيامِ فكانوا على ذلك برهةً من الدهر ثم جاءهم إبليسُ فقال لهم : إنما نُهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا حياضاً سهلةَ الورودِ صعبةَ الصدور ففعلوا فجعلوا يسوقون الحيتانَ إليها يوم السبت فلا تقدر على الخروج منها ويأخذونها يوم الأحد ، وأخذ رجل منهم حوتاً وربط في ذنبه خيطاً إلى خشبة في الساحل ثم شواه يوم الأحد فوجد جارُه ريحَ السمك فتطلع في تنّوره فقال له : إني أرى الله سيعذبك ، فلما لم يَرَه عُذّب أخذ في يوم السبت القابلِ حُوتين فلما رأوا أن العذابَ لا يعاجلُهم استمروا على ذلك فصادوا وأكلوا وملّحوا وباعوا وكانوا نحواً من سبعين ألفاً فصار أهلُ القرية أثلاثاً ثلثٌ استمروا على النهي ، وثلثٌ ملُّوا التذكير وسئِموه وقالوا للواعظين : لم تعِظون الخ ، وثلث باشروا الخطيئة فلما لم ينتهوا قال المسلمون : نحن لا نساكنُكم فقسموا القريةَ بجدار ، للمسلمين بابٌ وللمعتدين باب ولعنهم داودُ عليه السلام فأصبح الناهون ذاتَ يوم في مجالسهم ولم يخرُجْ من المعتدين أحد فقالوا : إن لهم لشأناً فعَلَوا الجدارَ فنظروا فإذا هم قردةٌ ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القِردةُ أنسباءَهم من الإنس وهم لا يعرفونها فجعل القردُ يأتي نسيبَه فيشم ثيابه فيبكي فيقول له نسيبُه : ألم ننهَكم ؟ فيقول القردُ برأسه : بلى ، ثم ماتوا عن ثلاث ، وقيل : صار الشبانُ قردةً والشيوخُ خنازير ، وعن مجاهد رضي الله عنه : مُسخت قلوبُهم ، وقال الحسن البصري : أكلوا والله أوخَمَ أكلةٍ أكلها أهلُها أثقلُها خزياً في الدنيا وأطولُها عذاباً في الآخرة هاه{[306]} وأيمُ الله ما حوتٌ أخذه قومٌ فأكلوه أعظمُ عند الله من قتل رجل مسلم ولكن الله تعالى جعل موعداً والساعةُ أدهى وأمرّ .


[306]:هاه: كلمة وعيد.