{ 84-89 } { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }
يخبر تعالى ، أنه وحده المألوه المعبود في السماوات والأرض فأهل السماوات كلهم ، والمؤمنون من أهل الأرض ، يعبدونه ، ويعظمونه ، ويخضعون لجلاله ، ويفتقرون لكماله .
{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا }
فهو تعالى المألوه المعبود ، الذي يألهه الخلائق كلهم ، طائعين مختارين ، وكارهين . وهذه كقوله تعالى : { وهو اللّه في السماوات وفي الأرض } أي : ألوهيته ومحبته فيهما . وأما هو فهو فوق عرشه ، بائن من خلقه ، متوحد بجلاله ، متمجد بكماله ، { وَهُوَ الْحَكِيمُ } الذي أحكم ما خلقه ، وأتقن ما شرعه ، فما خلق شيئا إلا لحكمة ، ولا شرع شيئا إلا لحكمة ، وحكمه القدري والشرعي والجزائي مشتمل على الحكمة . { الْعَلِيمُ } بكل شيء ، يعلم السر وأخفى ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في العالم العلوي والسفلي ، ولا أصغر منها ولا أكبر .
ثم أكد - سبحانه - أنه هو الإِله الحق ، وأن كل ما عداه باطل ، فقال : { وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله وَهُوَ الحكيم العليم } .
والجار والمجرور فى قوله { فِي السمآء . . وَفِي الأرض } متعلق بلفظ { إله } ، لأنه بمعنى معبود أو بمعنى مستحق للعبادة ، وهذا اللفظ الكريم خبر مبتدأ محذوف ، أى : هو إله . . .
أى : وهو - سبحانه - وحده المعبود بحق فى السماء ، والمعبود بحق فى الأرض ، لا إله غيره ، ولا رب سواه ، وهو - عز وجل - { الحكيم } فى كل أقواله وأفعاله { العليم } بكل شئ فى هذا الوجود .
فالآية الكريمة تدل على أن المستحق للعبادة من أهل السماء ومن أهل الأرض ، هو الله - تعالى - ، وكل معبود سواه فهو باطل .
قال الجمل ما ملخصه : قوله - سبحانه - : { وَهُوَ الذي فِي السمآء إله . . . } الجار والمجرور متعلق بلفظ إله ، لأنه بمعنى معبود فى السماء ومعبود فى الأرض . .
وبما تقرر من أن المراد بإله : معبود ، اندفع ما قيل من أن يقتضى تعدد الآلهة ، لأن النكرة إذا أعيدت نكرة تعددت ، كقولك : أنت طالق وطالق .
وإيضاح هذا الإِندفاع ، أن الإِله بمعنى المعبود ، وهو - تعالى - معبود فهيما . والمغايرة إنما هى بين معبوديته فى السماء ، ومعبوديته فى الأرض ، لأن المعبودية من الأمور الإِضافية فيكفى التغاير فيها من أحد الطرفين ، فإذا كان العابد فى السماء غير العابد فى الأرض ، صدق أن معبوديته فى السماء غير معبوديته فى الأرض مع أن المعبود واحد ، وفيه دلالة على اختصاصه - تعالى - باستحقاق الألوهية ، فإن التقديم يدل على الاختصاص . .
وقوله : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ } أي : هو إله من في السماء ، وإله من في الأرض ، يعبده أهلهما ، وكلهم خاضعون له ، أذلاء بين يديه ، { وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ }
وهذه الآية كقوله تعالى : { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } [ الأنعام : 3 ] أي : هو المدعو الله في السموات والأرض .
وقوله : وَهُوَ الّذِي فِي السّماءِ إلَهٌ ، وفي الأرْضِ إلَه يقول تعالى ذكره : والله الذي له الألوهة في السماء معبود ، وفي الأرض معبود كما هو في السماء معبود ، لا شيء سواه تصلح عبادته يقول تعالى ذكره : فأفردوا لمن هذه صفته العبادة ، ولا تشركوا به شيئا غيره . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَهُوَ الّذِي فِي السّماءِ إلَهٌ وفي الأرْضِ إلَهٌ قال : يُعبد في السماء ، ويُعبد في الأرض .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : وَهُوَ الّذِي فِي السّماءِ إلَهٌ وفي الأرْضِ إلَهٌ : أي يعبد في السماء وفي الأرض .
وقوله : وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ يقول : وهو الحكيم في تدبير خلقه ، وتسخيرهم لما يشاء ، العليم بمصالحهم .
{ وَهُوَ الذى فِى السمآء إله وَفِى الأرض إله } .
عطف على جملة { قل إن كان للرحمن ولد } [ الزخرف : 81 ] والجملتان اللتان بينهما اعتراضان ، قصد من العطف إفادة نفي الشريك في الإلهية مطلقاً بعد نفي الشريك فيها بالبُنوة ، وقصد بذكر السماء والأرض الإحاطة بعوالم التدبير والخلق لأن المشركين جعلوا لله شركاء في الأرض وهم أصنامهم المنصوبة ، وجعلوا له شركاء في السماء وهم الملائكة إذ جعلوهم بنات لله تعالى فكان قوله : { في السماء إله وفي الأرض إله } إبطالاً للفريقين مما زُعمت إلهيتهم . وكان مقتضى الظاهر بهذه الجملة أن يكون أوَّلها { الذي في السَّماء إله } على أنه وصف للرحمان من قوله : { إن كان للرحمن ولد } [ الزخرف : 81 ] ، فعُدل عن مقتضى الظاهر بإيراد الجملة معطوفة لتكون مستقلة غير صفة ، وبإيراد مبتدأ فيها لإفادة قصر صفة الإلهية في السماء وفي الأرض على الله تعالى لا يشاركه في ذلك غيره ، لأن إيراد المسند إليه معرفة والمسند معرفة طريق من طرق القصر . فالمعنى وهو لا غيره الذي في السماء إله وفي الأرض إله ، وصلة { الذي } جملة اسمية حذف صدرها ، وصَدرُها ضمير يعود إلى معاد ضمير { وهو } وحذْفُ صدر الصلة استعمال حسن إذا طالت الصلة كما هنا . والتقدير : الذي هو في السماء إله .
والمجروران يتعلقان ب { إله } باعتبار ما يتضمنه من معنى المعبود لأنه مشتق من ألَهَ ، إذا عبَد فشابه المشتق . وصح تعلق المجْرور به فتعلقه بلفظ إله كتعلق الظرف بغِربال وأقوى من تعلق المجرور بكانون في قول الحطيئة يهجو أمه من أبيات :
أغِرْبالاً إذا استُودِعْتِ سِرًّا *** وكَانُوناً على المتحدّثينا{[380]}
{ وهو إله وَهُوَ الحكيم العليم } .
بعد أن وصف الله بالتفرد بالإلهية أُتبع بوصفه ب { الحكيم العليم } تدقيقاً للدليل الذي في قوله : { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } ، حيث دل على نفي إلهية غيره في السماء والأرض واختصاصه بالإلهية فيهما لما في صيغة القصر من إثبات الوصف له ونفيه عمن سواه ، فكان قوله : { وهو الحكيم العليم } تتميماً للدليل واستدلالاً عليه ، ولذلك سميناه تدقيقاً إذ التدقيق في الاصطلاح هو ذكر الشيء بدليللِ دليله وأما التحقيق فذكرُ الشيء بدليله لأن الموصوف بتمام الحكمة وكمال العلم مستغن عما سواه فلا يحتاج إلى ولد ولا إلى بنت ولا إلى شريك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} فعظم نفسه عما قالوا، فقال: وهو الذي يوحد في السماء، ويوحد في الأرض.
{وهو الحكيم} في ملكه، الخبير بخلقه {العليم} بهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"وَهُوَ الّذِي فِي السّماءِ إلَهٌ، وفي الأرْضِ إلَه" يقول تعالى ذكره: والله الذي له الألوهة في السماء معبود، وفي الأرض معبود كما هو في السماء معبود، لا شيء سواه تصلح عبادته، يقول تعالى ذكره: فأفردوا لمن هذه صفته العبادة، ولا تشركوا به شيئا غيره...
وقوله: "وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ "يقول: وهو الحكيم في تدبير خلقه، وتسخيرهم لما يشاء، العليم بمصالحهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} الإله في اللغة، هو المعبود...يحتمل أن يقول: تعلمون أنتم أن الله سبحانه وتعالى هو إله في السماء والأرض، وإله من فيهما وما فيهما، وأنه خالق ذلك كلّه لقوله: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} [لقمان: 25 و...] والأصنام التي تعبدونها لم يفعلوا ذلك، ولا يملكون شيئا من ذلك، فكيف اتخذتموها آلهة دونه؟
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
إنما كرر لفظة إله في قوله "وفي الأرض إله "لأحد أمرين:
أحدهما -للتأكيد ليتمكن المعنى في النفس لعظمه في باب الحق.
الثاني- إن المعنى هو في السماء إله، يجب على الملائكة عبادته، وفي الأرض إله يجب على الآدميين عبادته.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
المعبودُ -في السماء- الله، والمقصودُ -في طلب الحوائج في الأرض- الله. أهلُ السماءِ لا يعبدون غير الله، وأهل الأرض لا يَقْضِي حوائجهم غير الله.
{وَهُوَ الْحَكِيمُ} في إمهاله للعصاة، {الْعَلِيمُ} بأحوالِ العِباد...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما نزهه سبحانه عن الولد ودل على ذلك بأنه مالك كل شيء وملكه، وكان ذلك غير ملازم للألوهية، دل على أنه مع ذلك هو الإله لا غيره في الكونين بدليل بديهي يشترك في علمه الناس كلهم، وقدم السماء ليكون أصلاً في ذلك يتبع؛ لأن الأرض تبع لها في غالب الأمور، فقال دالاً على أن نسبة الوجود كله إليه على حد سواء لأنه منزه عن الاحتياج إلى مكان أو زمان عاطفاً على ما تقديره: تنزه عما نسبوه إليه الذي هو معنى {سبحان}: {وهو الذي} هو {في السماء إله} أي معبود لا يشرك به شيء {وفي الأرض إله}.
ولما كان الإله لا يصلح للألوهية إلا إذا كان يضع الأشياء في محالها بحيث لا يتطرق إليه فساد، ولا يضرها إفساد مفسد، وكان لا يكون كذلك إلا بالغ العلم قال:
{وهو الحكيم} أي البليغ الحكمة، وهي العلم الذي لأجله وجب الحكم من قوام من أمر المحكوم عليه في عاجلته وآجلته.
ولما كانت الحكمة العلم بما لأجله وجب الحكم قال تعالى: {العليم} أي البالغ في علمه إلى حد لا يدخل في عقل العقلاء أكثر من وصفه به على طريق المبالغة ولو وسعوا أفكارهم وأطالوا أنظارهم؛ لأنه ليس كمثله شيء في ذاته ولا صفة من صفاته ليقاس به، وكل من ادعى فيه أنه شريك له لا يقدر من أشرك به أن يدعي له ما وصف به من الإجماع على ألوهيته ومن كمال علمه وحكمه، فثبت قطعاً ببطلان الشركة بوجه يفهمه كل أحد، فلا خلاص حينئذ إن خالف كائناً من كان، وإذا قد صح أنه الإله وحده وأنه منزه عن شريك وولد وكل شائبة نقص كان بحيث لا يخاف وعيده، فلا يخوض ولا يلعب عبيده، ومن خاض منهم أو لعب فلا يلومن إلا نفسه، فإن عمله محفوظ بعلمه فهو مجاز عليه بحكمته.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قصد بذكر السماء والأرض الإحاطة بعوالم التدبير والخلق لأن المشركين جعلوا لله شركاء في الأرض وهم أصنامهم المنصوبة، وجعلوا له شركاء في السماء وهم الملائكة إذ جعلوهم بنات لله تعالى فكان قوله: {في السماء إله وفي الأرض إله} إبطالاً للفريقين مما زُعمت إلهيتهم...