ثم بين عجزهم فقال : { ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها } قرأ أبو جعفر بضم الطاء هنا ، وفي القصص ، والدخان ، وقرأ الآخرون بكسر الطاء .
قوله تعالى : { أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها } ، أراد أن قدرة المخلوقين تكون بهذه الجوارح والآلات ، وليست للأصنام هذه الآلات ، فأنتم مفضلون عليها بالأرجل الماشية ، والأيدي الباطشة ، والأعين الباصرة ، والآذان السامعة ، فكيف تعبدون من أنتم أفضل وأقدر منهم ؟
قوله تعالى : { قل ادعوا شركاءكم } ، يا معشر المشركين .
قوله تعالى : { ثم كيدون } ، أنتم وهم .
قوله تعالى : { فلا تنظرون } ، أي : لا تمهلوني ، واعجلوا في كيدي .
194 - 196 إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ .
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نزلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ .
وهذا من نوع التحدي للمشركين العابدين للأوثان ، يقول تعالى : إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ أي : لا فرق بينكم وبينهم ، فكلكم عبيد للّه مملوكون ، فإن كنتم كما تزعمون صادقين في أنها تستحق من العبادة شيئا فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فإن استجابوا لكم وحصلوا مطلوبكم ، وإلا تبين أنكم كاذبون في هذه الدعوى ، مفترون على اللّه أعظم الفرية ، وهذا لا يحتاج إلى التبيين فيه ، فإنكم إذا نظرتم إليها وجدتم صورتها دالة على أنه ليس لديها من النفع شيء ، فليس لها أرجل تمشي بها ، ولا أيد تبطش بها ، ولا أعين تبصر بها ، ولا آذان تسمع بها ، فهي عادمة لجميع الآلات والقوى الموجودة في الإنسان .
فإذا كانت لا تجيبكم إذا دعوتموها ، وهي عباد أمثالكم ، بل أنتم أكمل منها وأقوى على كثير من الأشياء ، فلأي شيء عبدتموها .
قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ أي : اجتمعوا أنتم وشركاؤكم على إيقاع السوء والمكروه بي ، من غير إمهال ولا إنظار{[336]} فإنكم غير بالغين لشيء من المكروه بي .
{ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } .
الاستفهام للإنكار ، والمعنى : أن هذه الأصنام التي تعمون أنها تقربكم إلى الله زلفى هى أقل منكم مستوى لفقدها الحواس التي هى مناط الكسب إنها ليس لها أرجل تسعى بها إلى دفع ضر أو جلب نفع ؛ وليس لها أيد : تبطش بها أى تأخذ بها ما تريد أخذه ، وليس لها أعين تبصر بها شئونكم وأحوالكم وليس لها آذان تسمع بها أقوالكم ، وتعرف بواسطتها مطالبكم ، فأنتم أيها الناس تفضلون هذه الأصنام بما منحكم الله - تعالى - من حواس السمع والبصر وغيرها فكيف يعبد الفاضل المفضول ، وكيف ينقاد الأقوى للاضعف ؟
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يناصبهم الحجة وأن يكرر عليهم التوبيخ فقال : { قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ } أى : قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء الذين هبطوا بعقولهم إلى أحد المستويات نادوا شركاءكم الذين زعمتموهم أولياء ثم تعاونوا أنتم وهم على كيدى وإلحاق الضر بى من غير انتظار أو إمهال ، فإنى أنا معتز بالله ، ولمتجىء إلى حماه ومن كان كذلك فلن يخشى شيئا من المخلوقين جميعا .
وهذا نهاية التحدى من جانب الرسول صلى الله عليه وسلم لهم والحط من شأنهم وشأن آلهتهم .
وقوله : { قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ }{[12532]} أي : استنصروا بها علي ، فلا تؤخروني طرفة عين ، واجهدوا جهدكم !
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ثُمّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ } . .
يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين عبدوا الأصنام من دونه معرّفهم جهل ما هم عليه مقيمون : ألأصنامكم هذه أيها القوم أرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها فيسعون معكم ولكم في حوائجكم ويتصرّفون بها في منافعكم ، أمْ لَهُمْ أيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها فيدفعون عنكم وينصرونكم بها عند قصد من يقصدكم بشرّ ومكروه ، أمْ لَهُمْ أعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها فيعرّفوكم ما عاينوا وأبصروا مما تغيبون عنه فلا ترونه ، أمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِها فيخبروكم بما سمعوا دونكم مما لم تسمعوه ؟ يقول جلّ ثناؤه : فإن كانت آلهتكم التي تعبدونها ليس فيها شيء من هذه الاَلات التي ذكرتها ، والمعظّم من الأشياء إنما يعظّم لما يرجى منه من المنافع التي توصل إليه بعض هذه المعاني عندكم ، فما وجه عبادتكم أصنامكم التي تعبدونها ، وهي خالية من كلّ هذه الأشياء التي بها يوصل إلى اجتلاب النفع ودفع الضرّ ؟
وقوله : قُلْ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمّ كِيدُونِ أنتم وهن ، فَلا تُنْظِرُونِ يقول : فلا تؤخرون بالكيد والمكر ، ولكن عجلوا بذلك . يُعلمه جلّ ثناؤه بذلك أنهم لم يضرّوه ، وأنه قد عصمه منهم ، ويعرّف الكفرة به عجز أوثانهم عن نصرة من بغى أولياءهم بسوء .
وقوله تعالى : { ألهم أرجل } الآية ، الغرض من هذه الآية ، ألهم حواس الحي وأوصافه ؟ فإذا قالوا لا ، حكموا بأنها جمادات فجاءت هذه التفصيلات لذلك المجمل الذي أريد التقرير عليه فإذا وقع الإقرار بتفصيلات القضية لزم الإقرار بعمومها وكان بيانها أقوى ولم تبق بها استرابة ، قال الزهراوي : المعنى أنتم أفضل منهم بهذه الجوارح النافعة فكيف تعبدونهم ؟
قال القاضي أبو محمد : و «تتقون » بهذا التأويل قراءة سعيد بن جبير ، إذ تقتضي أن الأوثان ليست عباداً كالبشر .
وقوله في الآية { أم } إضراب لكل واحدة عن الجملة المتقدمة لها ، وليست «أم » المعادلة للألف في قوله أعندك زيد أم عمرو ؟ لأن المعادلة إنما هي في السؤال عن شيئين أحدهما حاصل ، فإذا وقع التقدير على شيئين كلاهما منفي ف «أم » إضراب عن الجملة الأولى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي فرق معنوي ، وأما من جهة اللفظ والصناعة النحوية فهي هي ، وقرأ نافع والحسن والأعرج «يبطِشون » بكسر الطاء وقرأ نافع أيضاً وأبو جعفر وشيبة «يبطُشون » بضمها ، ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعجزهم بقوله { قل ادعوا شركاءكم } أي استنجدوهم إلى إضراري وكيدي ولا تؤخروني ، المعنى فإن كانوا آلهة فسيظهر فعلهم ، وسماهم شركاءهم من حيث لهم نسبة إليهم بتسميتهم إياهم آلهة وشركاء لله ، وقرأ أبو عمرو ونافع «كيدوني » بإثبات الياء في الوصل ، وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «كيدون » بحذف الياء في الوصل والوقف ، قال أبو علي : إذا أشبه الكلام المنفصل أو كان منفصلاً أشبه القافية وهم يحذفون الياء في القافية كثيراًً قد التزموا ذلك ، كما قال الأعشى : [ المتقارب ]
فهل يمنعني ارتيادي البلا*** د من حذر الموت أن يأتين
وقد حذفوا الياء التي هي لام الأمر كما قال الأعشى : [ الرمل ]
يلمس الأحلاس في منزله*** بيديه كاليهودي المصل
وقوله { فلا تنظرون } أي لا تؤخرون ، ومنه قوله تعالى : { فنظرة إلى ميسرة } .
تأكيد لما تضمنته الجملة قبلها من أمر التعجيز وثبوت العجز ، لأنه إذا انتفت عن الأصنام أسباب الاستجابة تحقق عجزها عن الإجابة ، وتأكد معنى أمر التعجيز المكنى به عن عجز الأصنام وعجز عبدتها ، والاستفهام إنكاري وتقديم المسند على المسند إليه للاهتمام بانتفاء الملك الذي دلت عليه اللام كالتقديم في قول حسان :
ووصف الأرجل ب { يمشون } والأيدي ب { يبطشون } والأعين ب { يبصرون } والآذان ب { يسمعون } إما لزيادة تسجيل العجز عليهم فيما يحتاج إليه الناصر ، وإما لأن بعض تلك الأصنام كانت مجعولة على صور الآدميين مثل هبل ، وذي الكفين ، وكعيب في صور الرجال ، ومثل سواع كان على صورة امرأة ، فإذا كان لأمثال أولئك صور أرجل وأيد وأعين وآذان ، فإنها عديمة العمل الذي تختص به الجوارح ، فلا يطمع طامع في نصرها ، وخص الأرجل والأيدي والأعين والآذان ، لأنها آلات العلم والسعي والدفع للنصر ، ولهذا لم يذكر الألسن لما علمت من أن الاستجابة مراد بها النجدة والنصرة ، ولم يكونوا يسألون عن سبب الاستنجاد ، ولكنهم يسرعون إلى الإلتحاق بالمستنجد .
والمشي انتقال الرجلين من موضع انتقالاً متوالياً .
والبطش الأخذ باليد بقوة ، والإضرار باليد بقوة ، وقد جاء مضارعه بالكسر والضم على الغالب . وقراءة الجمهور بالكسر ، وقرأ أبو جعفر : بضم الطاء ، وهما لغتان .
و { أم } حرف بمعنى ( أو ) يختص بعطف الاستفهام ، وهي تكون مثل ( أو ) لأحد الشيئين أو الأشياء ، وللتمييز بين الأشياء ، أو الإباحة أي الجمع بينها ، فإذا وقعت بعد همزة الاستفهام المطلوب بها التعيين كانت مثل ( أو ) التي للتخيير ، كقوله تعالى { قل ءالله أذن لكم أم على الله تفترون } [ يونس : 59 ] أي عينوا أحدهما ، وإن وقعت بعد استفهام غير حقيقي كانت بمعنى ( أو ) التي للإباحة ، وتسمى ، حينئذ منقطعة ولذلك يقولون إنها بمعنى ( بل ) الانتقالية وعلى كل حال فهي ملازمة لمعنى الاستفهام فكلما وقعت في الكلام قُدر بعدها استفهام ، فالتقدير هنا ، بل ألهم أيد يبطشون بها ، بل ألهم أعين يبصرون بها ، بل ألهم آذان يسمعون بها .
وترتيب هذه الجوارح الأربع على حسب ما في الآية ملحوظ فيه أهميتها بحسب الغرض ، الذي هو النصر والنجدة ، فإن الرجلين تسرعان إلى الصريخ قبل التأمل ، واليدين تعملان عمل النصر وهو الطعن والضرب ، وأما الأعين والآذان فإنهما وسيلتان لذلك كله فأخرا ، وإنما قدم ذكر الأعين هنا على خلاف معتاد القرءان في تقديم السمع على البصر كما سبق في أول سورة البقرة لأن الترتيب هنا كان بطريق الترقي .
إذن من الله لرسوله بأن يتحداهم بأنهم إن استطاعوا استصرخوا أصنامهم لتتألب على الكيد للرسول عليه السلام ، والمعنى ادعوا شركاءكم لينصروكم علي فتستريحوا مني .
والكيد الإضرار الواقع في صورة عدم الإضرار ، كما تقدم عند قوله تعالى آنفاً { وأملي لهم إن كيدي متين } [ الأعراف : 183 ] .
والأمر والنهي في قوله : { كيدون فلا تنظرون } للتعجيز .
وقوله : { فلا تنظرون } تفريع على الأمر بالكيد ، أي فإذا تمكنتم من اضراري فأعجلوا ولا تؤجلوني .
وفي هذا التحدي تعريض بأنه سيبلغهم وينتصر عليهم ويستأصل آلهتهم وقد تحداهم بأتم أحوال النصر وهي الاستنصار بأقدر الموجودات في اعتقادهم ، وأن يكون الاضرار به خفياً ، وأن لا يتلوم له ولا ينتظر ، فإذا لم يتمكنوا من ذلك كان انتفاؤه أدل على عجزهم وعجز آلهتهم .
وحذفت ياء المتكلم من { كيدون } في حالتي الوقف والوصل ، في قراءة الجمهور غير أبي عمرو ، وأما { تنظرون } فقرأه الجميع : بحذف الياء إلا يعقوب أثبتها وصلاً ووقفاً ، وحذف ياء المتكلم بعد نون الوقاية جِدُّ فصيحٍ .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين عبدوا الأصنام من دونه معرّفهم جهل ما هم عليه مقيمون: ألِأصنامكم هذه أيها القوم "أرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها "فيسعون معكم ولكم في حوائجكم ويتصرّفون بها في منافعكم؟ "أمْ لَهُمْ أيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها" فيدفعون عنكم وينصرونكم بها عند قصد من يقصدكم بشرّ ومكروه؟ "أمْ لَهُمْ أعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها" فيعرّفوكم ما عاينوا وأبصروا مما تغيبون عنه فلا ترونه؟ "أمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ" بِها فيخبروكم بما سمعوا دونكم مما لم تسمعوه؟ يقول جلّ ثناؤه: فإن كانت آلهتكم التي تعبدونها ليس فيها شيء من هذه الآلات التي ذكرتها، والمعظّم من الأشياء إنما يعظّم لما يرجى منه من المنافع التي توصل إليه بعض هذه المعاني عندكم، فما وجه عبادتكم أصنامكم التي تعبدونها، وهي خالية من كلّ هذه الأشياء التي بها يوصل إلى اجتلاب النفع ودفع الضرّ؟
وقوله: "قُلْ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمّ كِيدُونِ" أنتم وهن، "فَلا تُنْظِرُونِ" يقول: فلا تؤخرون بالكيد والمكر، ولكن عجلوا بذلك، يُعلمه جلّ ثناؤه بذلك أنهم لن يضرّوه، وأنه قد عصمه منهم، ويعرّف الكفرة به عجز أوثانهم عن نصرة من بغى أولياءهم بسوء.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
...يسفّه عقولهم بعبادتهم الأصنام التي لا أرجل لهم يمشون بها، يهربون ممن يقصدهم بالسوء، أو يقصدون بهم قصد من أراد الضر بهم والسوء، وكذلك يعبدون ما لا أيدي لهم يبطشون بها يدفعون عن أنفسهم من أراد بهم السوء، أو يأخذون من يقصدهم. وكذلك قوله تعالى: {أم لهم أعين يبصرون بها} يبصرون من يقصدهم بالسوء {أم لهم آذان يسمعون بها} من يشتمهم، ويذكرهم بالسوء؟ يسفّههم في عبادتهم من لا يملك دفع من يقصده بالسوء إما هربا منه وإما قصدا منه إليه بالسوء. فإذا كانوا لا يملكون ذلك كيف تعبدون؟ وهو كقول إبراهيم عليه السلام {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} [مريم: 42] فإذا كانوا لا يملكون دفع ما يحل بهم كيف يملكون جر النفع إليكم أو دفع الضر عنكم؟ وقوله تعالى: {قل ادعوا شركاءكم} قال بعض أهل التأويل: خاطب كفار مكة بقوله تعالى: {قل ادعوا شركاءكم} الذين تزعمون أنهم آلهة دون الله... {ثم كيدوني} ويحتمل أن يكون الخطاب لجميع الكفار الذين يعبدون الأصنام والأوثان من دون الله. قال ذلك لهم رسول الله بين ظهرانيهم {ثم كيدون فلا تنظرون} ثم لم يقدر أحد الكيد به والضرر مع قوّتهم وعدتهم بالكثرة والأعوان وضعف رسوله وقلة أعوانه. دل عجزهم عن ذلك أنه كان آية في نفسه، وأنه بالله تعالى ينتصر، وبه قوي على أعدائه. وذلك من عظيم آياته لأنه قال ذلك لمن همهم القتل والإهلاك لمن خالفهم في ما في هم فيه. ثم لم يقدر أحد منهم الضرر به. دل أنه بالله حفظه. وكذلك سائر الأنبياء، صلوات الله عليهم، حين كانوا بين ظهراني قومهم من نحو هود ونوح وهؤلاء {فكيدوني جميعا ولا تنظرون} [هود: 55] وقال نوح: {إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون} الآية [هود: 38]...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
بيَّن بهذه الآيات أن الأصنام التي عبدوها دونَهم فيما اعتقدوا فيه صفة المدح، ثم لم يعبد بعضهم بعضاً، فكيف استجازوا عبادةَ ما فاقهم في النقص؟. قوله جلّ ذكره: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونَ}. صدق التوكل على الله يوجب ترك المبالاة بغير الله، كيف لا... والمتفرِّدُ بالقدرة -على النفع والضرر، والخير والشر- اللهُ؟...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَلاَ تُنظِرُونِ} فإني لا أبالي بكم، ولا يقول هذا إلا واثق بعصمة الله، وكانوا قد خوّفوه آلهتهم فأمر أن يخاطبهم بذلك، كما قال قوم هود له: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء} [هود: 54] قال لهم: {إِنّي بريء مّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} [هود: 55]...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {ألهم أرجل...} الغرض من هذه الآية، ألهم حواس الحي وأوصافه؟ فإذا قالوا لا، حكموا بأنها جمادات فجاءت هذه التفصيلات لذلك المجمل الذي أريد التقرير عليه فإذا وقع الإقرار بتفصيلات القضية لزم الإقرار بعمومها وكان بيانها أقوى ولم تبق بها استرابة، قال الزهراوي: المعنى أنتم أفضل منهم بهذه الجوارح النافعة فكيف تعبدونهم؟...
اعلم أن هذا نوع آخر من الدليل في بيان أنه يقبح من الإنسان العاقل أن يشتغل بعبادة هذه الأصنام. وتقريره أنه تعالى ذكر في هذه الآية أعضاء أربعة، وهي الأرجل والأيدي والأعين والآذان، ولا شك أن هذه الأعضاء إذا حصل في كل واحدة منها ما يليق بها من القوى المحركة والمدركة تكون أفضل منها إذا كانت خالية عن هذه القوى، فالرجل القادرة على المشي واليد القادرة على البطش أفضل من اليد والرجل الخاليتين عن قوة الحركة والحياة، والعين الباصرة والأذن السامعة أفضل من العين والأذن الخاليتين عن القوة الباصرة والسامعة، وعن قوة الحياة، وإذا ثبت هذا ظهر أن الإنسان أفضل بكثير من هذه الأصنام، بل لا نسبة لفضيلة الإنسان إلى فضل هذه الأصنام البتة، وإذا كان كذلك فكيف يليق بالأفضل الأكمل الأشرف أن يشتغل بعبادة الأخس الأدون الذي لا يحس منه فائدة البتة، لا في جلب المنفعة ولا في دفع المضرة. هذا هو الوجه في تقرير هذا الدليل الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وقوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} الخ تبكيتٌ إثرَ تبكيتٍ مؤكدٌ لما يفيده الأمرُ التعجيزيُّ من عدم الاستجابةِ ببيان فُقدانِ آلاتِها بالكلية فإن الاستجابةَ من الهياكل الجسمانية إنما تُتصوّر إذا كان لها حياةٌ وقُوىً محرّكة ومُدركة وما ليس له شيءٌ من ذلك فهو بمعزل من الأفاعيل بالمرة كأنه قيل: ألهم هذه الآلاتُ التي بها تتحقق الاستجابةُ حتى يمكن استجابتُهم لكم؟ وقد وجه الإنكار إلى كل واحدةٍ من هذه الآلات الأربعِ على حدة تكريراً للتبكيت وتثنيةً للتقريع وإشعاراً بأن انتفاءَ كلِّ واحدةٍ منها بحيالها كافٍ في الدلالة على استحالةِ الاستجابة، ووصفُ الأرجلِ بالمشي بها للإيذان بأن مدارَ الإنكارِ هو الوصفُ وإنما وُجّه إلى الأرجلِ لا إلى الوصف بأن يقال: أيمشون بأرجلهم؟ لتحقيق أنها حيث لم يظهر منها ما يظهر من سائر الأرجلِ فهي ليست بأرجل في الحقيقة وكذا الكلامُ فيما بعده من الجوارحِ الثلاثِ الباقية...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... هذا تقريع موجه إلى الوجدان، في إثر احتجاج وجه قبله إلى الجنان، والاستفهام فيه للإنكار، وهو خاص بالأصنام والأوثان، ومعناه أنهم لفقدهم لجوارح الكسب، التي يناط بها في عالم الأسباب النفع والضر، قد هبطوا عن درجة مماثلتكم من كل وجه، فليس لهم أرجل يسعون بها إلى دفع ضر أو جلب نفع، وليس لهم أيد يبطشون بها فيما ترجون منهم من خير أو تخافون من شر، وليس لهم أعين يبصرون بها حالكم، وليس لهم آذان، يسمعون بها أقوالكم، ويعرفون بها مطالبكم، فأنتم تفضلونهم في الصفات والقوى التي أودعها الله في الخلق، فلماذا ترفعونهم عن مماثلتكم، وهم بدليل المشاهدة والاختبار دونكم؟ وها أنتم أولاء تستكبرون عن قبول الهدى والرشاد من الرسول وتعللون ذلك بأنه بشر مثلكم، فيقول بعضكم لبعض {ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون * ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون} [المؤمنون: 33، 34] أفتأبون قبول الحق والخير من مثلكم، وقد فضله الله بالعلم والهدى عليكم، وهو لا يستذلكم بادعاء أنه ربكم أو إلهكم، ثم ترفعون ما دونه ودونكم إلى مقام الألوهية، مع انحطاطه وتسفله عن هذه المثلية؟
{قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون} أي قل أيها الرسول لهؤلاء المرزوئين بعقولهم، المحتقرين لنعم الله تعالى عليهم، نادوا شركاءكم الذين اتخذتموهم أولياء، وزعمتم أنهم فيكم شفعاء، ثم تعاونوا على كيدي جميعا، وأجمعوا مكركم الخفي لإيقاع الضر بي سريعا، فلا تنظرون أي لا تؤخروني ساعة من نهار، بعد إحكام المكر الكبَّار. وحكمة مطالبتهم بهذا أن العقائد والتقاليد الموروثة تتغلغل في أعماق الوجدان، حتى يتضاءل دونها كل برهان، ويظل صاحبها مع ظهور الدليل على بطلانها يتوهم أنها تضر وتنفع، وتقرب من الله وتشفع، فطالبهم بأمر عملي يستل هذا الوهم من أعماق قلوبهم، ويمتلخ الشعور به من خبايا صدورهم، وهو أن ينادوا هؤلاء الشركاء نداء استغاثة واستنجاد لإبطال دعوة الداعي إلى الكفر بها، وإثباته العجز لها، وبذل الجهد فيما ينسبون إليها من التأثير الباطن، والتدبير الكامن، الذي هو عندهم أمر غيبي، يدخل في معنى الكيد الخفي. فإن كان لها شيء ما من السلطان الغيبي في أنفسها أو عند الله تعالى فهذا وقت ظهوره، فإن لم يظهر لإبطال عبادتها وتعظيمها، ونصر عابديها ومعظمي شأنها، فمتى يظهر وينتفعون به؟ وهم منكرون للبعث، وكل ما يرجونه أو يخافونه منها فهو خاص بما يكون في هذه الأرض؟
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تأكيد لما تضمنته الجملة قبلها من أمر التعجيز وثبوت العجز، لأنه إذا انتفت عن الأصنام أسباب الاستجابة تحقق عجزها عن الإجابة، وتأكد معنى أمر التعجيز المكنى به عن عجز الأصنام وعجز عبدتها... ووصف الأرجل ب {يمشون} والأيدي ب {يبطشون} والأعين ب {يبصرون} والآذان ب {يسمعون} إما لزيادة تسجيل العجز عليهم فيما يحتاج إليه الناصر، وإما لأن بعض تلك الأصنام كانت مجعولة على صور الآدميين مثل هبل، وذي الكفين، وكعيب في صور الرجال، ومثل سواع كان على صورة امرأة، فإذا كان لأمثال أولئك صور أرجل وأيد وأعين وآذان، فإنها عديمة العمل الذي تختص به الجوارح، فلا يطمع طامع في نصرها، وخص الأرجل والأيدي والأعين والآذان، لأنها آلات العلم والسعي والدفع للنصر، ولهذا لم يذكر الألسن لما علمت من أن الاستجابة مراد بها النجدة والنصرة، ولم يكونوا يسألون عن سبب الاستنجاد، ولكنهم يسرعون إلى الالتحاق بالمستنجد. والمشي انتقال الرجلين من موضع انتقالاً متوالياً. والبطش الأخذ باليد بقوة، والإضرار باليد بقوة،... وترتيب هذه الجوارح الأربع على حسب ما في الآية ملحوظ فيه أهميتها بحسب الغرض، الذي هو النصر والنجدة، فإن الرجلين تسرعان إلى الصريخ قبل التأمل، واليدين تعملان عمل النصر وهو الطعن والضرب، وأما الأعين والآذان فإنهما وسيلتان لذلك كله فأخرا، وإنما قدم ذكر الأعين هنا على خلاف معتاد القرءان في تقديم السمع على البصر كما سبق في أول سورة البقرة لأن الترتيب هنا كان بطريق الترقي. إذن من الله لرسوله بأن يتحداهم بأنهم إن استطاعوا استصرخوا أصنامهم لتتألب على الكيد للرسول عليه السلام، والمعنى ادعوا شركاءكم لينصروكم علي فتستريحوا مني. والكيد الإضرار الواقع في صورة عدم الإضرار، كما تقدم عند قوله تعالى آنفاً {وأملي لهم إن كيدي متين} [الأعراف: 183]. والأمر والنهي في قوله: {كيدون فلا تنظرون} للتعجيز. وقوله: {فلا تنظرون} تفريع على الأمر بالكيد، أي فإذا تمكنتم من اضراري فأعجلوا ولا تؤجلوني. وفي هذا التحدي تعريض بأنه سيبلغهم وينتصر عليهم ويستأصل آلهتهم وقد تحداهم بأتم أحوال النصر وهي الاستنصار بأقدر الموجودات في اعتقادهم، وأن يكون الاضرار به خفياً، وأن لا يتلوم له ولا ينتظر، فإذا لم يتمكنوا من ذلك كان انتفاؤه أدل على عجزهم وعجز آلهتهم...
{قل ادعوا شركاءكم ثم كيدوني فلا تنظرون}: ويتحداهم صلى الله عليه وسلم أن يكيدوهم وآلهتهم، والكيد هو التدبير الخفي المحكم. وانظروا ما سوف يحدث، ولن يصيب رسول الله بإذن ربه أدنى ضر. ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى قد أجرى على رسول الله أشياء، ليثبت بها أشياء، وقد قالوا: إن واحدا قد سحر النبي، ولنفرض أن مثل ذلك السحر قد حصل، فكيف ينسحر النبي؟ ونقول: ومن ذا الذي قال: إنه سحر؟. إن ربنا أعلمه بالساحر وبنوع السحر، وأين وضع الشيء الذي عليه السحر، ليبين لهم أن كيدهم حتى بواسطة شياطينهم مفضوح عند الله. {وإذ يَمكر بك الذين كفروا ليُثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} (من الآية 30 سورة الأنفال). وهم كانوا قد بيتوا المكر لرسول الله وأرادوا أن يضربوه ضربة واحدة ليتفرق دمه في القبائل، فأوضح ربنا: أنتم بيتم، ولكن مكركم يبور أمام أعينكم. وليثبت لهم أنهم بالمواجهة لن يستطيعوا مصادمته في دعوته. ولا بالتبييت البشري يستطيعون أن يصدموا دعوته، ولا بتبييت الجن –وهم أكثر قدرة على التصرف- يستطيعون مواجهة دعوته. وما داموا قد عرفوا أنهم لن يظهروا على الرسول، ولن يفيد مكرهم أو سحرهم أو كيدهم مع شياطينهم، إذن فلا بد أن ييأسوا، ولذلك تحداهم وقال: {قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي فَلا تُنظِرُونِ} (من الآية 195 سورة الأعراف). وأنظره يعني أخره، والقول هنا: لا تؤخروا كيدكم مع شركائكم، بل نفذوا الكيد بسرعة، وقد أمر الحق رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما آوى إلى ركن شديد؛ لذلك يقول رسول الله بأمر الحق: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)}...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وفي البيان الثّالث تبرهن الآية على أنّ الأصنام أضعف حتى من عبادها المشركين، فتساءل مستنكرةً: (ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون 6 بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم أذان يسمعون بها).
وهكذا فإنّ الأصنام من الضعة بمكان حتى أنّها بحاجة إلى من يدافع عنها ويحامي عنها، فليس لها أعين تبصر بها، ولا أذان تسمع بها، ولا أرجل تمشي بها، ولا أي إحساس آخر. وأخيراً فإنّ الآية تبيّن ضمن تعبير هو في حكم الدليل الرّابع مخاطبة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلةً: (قل ادعوا شركاءكم ثمّ كيدون فلا تنظرون).
أي إذا كنتُ كاذباً، وأنّ الأصنام مقربات عند الله، وقد تجرأتُ عليها فلِمَ لا تغضب عليّ؟ وليس لها ولا لكم ولمكائدكم أي تأثير علي. فبناءً على ذلك فاعلموا أنّ هذه الأصنام موجودات غير مؤثرة، وإنّما تصوراتكم هي التي أضْفَتْ عليها ذلك التوهّم!.