قوله تعالى :{ بل متعنا هؤلاء } الكفار { وآباءهم } في الدنيا أي : أمهلناهم . وقيل : أعطيناهم النعمة ، { حتى طال عليهم العمر } أي امتد بهم الزمان فاغتروا . { أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } أي : ما ننقص من أطراف المشركين ونزيد في أطراف المؤمنين ، يريد ظهور النبي صلى الله عليه وسلم وفتحه ديار الشرك أرضاً فأرضاً ، { أفهم الغالبون } أم نحن .
والذي أوجب لهم استمرارهم على كفرهم وشركهم قوله : { بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ْ } أي : أمددناهم بالأموال والبنين ، وأطلنا أعمارهم ، فاشتغلوا بالتمتع بها ، ولهوا بها ، عما له خلقوا ، وطال عليهم الأمد ، فقست قلوبهم ، وعظم طغيانهم ، وتغلظ كفرانهم ، فلو لفتوا أنظارهم إلى من عن يمينهم ، وعن يسارهم من الأرض ، لم يجدوا إلا هالكا ولم يسمعوا إلا صوت ناعية ، ولم يحسوا إلا بقرون متتابعة على الهلاك ، وقد نصب الموت في كل طريق لاقتناص النفوس الأشراك ، ولهذا قال : { أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ْ } أي : بموت أهلها وفنائهم ، شيئا فشيئا ، حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين ، فلو رأوا هذه الحالة لم يغتروا ويستمروا على ما هم عليه .
{ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ْ } الذين بوسعهم ، الخروج عن قدر الله ؟ وبطاقتهم الامتناع عن الموت ؟ فهل هذا وصفهم حتى يغتروا بطول البقاء ؟ أم إذا جاءهم رسول ربهم لقبض أرواحهم ، أذعنوا ، وذلوا ، ولم يظهر منهم أدنى ممانعة ؟
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن نعمة أخرى من نعم الله عليهم لم يحسنوا شكرها ، فقال - تعالى - : { بَلْ مَتَّعْنَا هؤلاء وَآبَآءَهُمْ حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر . . . } .
أى : لا تلتفت - أيها الرسول الكريم - إلى هؤلاء المشركين الذين أعرضوا عن ذكر ربهم ، والذين زعموا أن آلهتهم تضر أو تنفع ، فإننا قد كلأناهم برعايتنا بالليل والنهار ، ومتعناهم وآباءهم من قبلهم بالكثير من متع الحياة الدنيا ، حتى طالت أعمارهم فى رخاء ونعمة ، فحملهم ذلك على الطغيان والبطر والإصرار على الكفر .
وسنأخذهم فى الوقت الذى نريده أخذ عزيز مقتدر ، فإن ما أعطيناه لهم من نعم إنما هو على سبيل الاستدراج لهم .
ثم يلفت - سبحانه - أنظارهم إلى الوقاع المشاهد فى هذه الحياة فيقول : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الغالبون } .
وللعلماء فى تفسير هذه الجملة الكريمة أقوال منها : أن المراد بنقص الأرض من أطرافها : إهلاك المشركين السابقين الذين كذبوا رسلهم ، كقوم نوح وعاد وثمود ، وهم يمرون على قرى بعض هؤلاء المكذبين ، ويرون آثارهم وقد دمرت ديارهم .
والمعنى : أفلا ينظرون هؤلاء المشركون الذين كذبوك يا محمد ، فيرون بأعينهم ما حل بأمثالهم ممن كذبوا الرسل من قبلك . وكيف أننا طوينا الأرض بهم . وجعلناهم أثرا بعد عين .
والاستفهام فى قوله : { أَفَهُمُ الغالبون } للإنكار .
أى : لم تكن الغلبة والعاقبة في يوم من الأيام لمن كذبوا رسل الله - تعالى - وإنما الغلبة والظفر وحسن العاقبة لمن آمن بالرسل وصدقهم واتبع ما جاءوا به من عند ربهم .
وقد أشار الإمام ابن كثير إلى هذا المعنى بقوله : " أفلا يعتبرون نصر الله لأوليائه على أعدائه ، وإهلاكه الأمم المكذبة والقرى الظالمة وإنجائه لعباده المؤمنين . ولهذا قال : { أَفَهُمُ الغالبون } .
يعنى : بل هم المغلوبون الأسفلون الأخسرون الأرذلون .
ومنها أن المراد بنقص الأرض من أطرافها : نقص أرض الكفر ودار الحرب ، وتسليط المسلمين عليها وانتزاعها من أيديهم بدليل الاستفهام الإنكارى فى قوله { أَفَهُمُ الغالبون } أى : لا . . . ليسوا هم الذين يغلبون جندنا ، وإنما جندنا هم الغالبون .
وقد صدر الآلوسى تفسيره لهذا القول فقال : " أفلا يرون أنا تأتى الأرض " أى : أرض الكفرة " ننقصها من أطرافها " بتسليط المسلمين عليها ، وحوز ما يحوزونه منها ، ونظمه فى سلك ملكهم . . . " أفهم الغالبون " على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين .
والمراد إنكار ترتيب الغالبية على ما ذكر من نقص أرض الكفرة بتسليط المؤمنين عليها ، كأنه قيل : أبعد ظهور ما ذكر ورؤيتهم له يتوهم غلبتهم ، وفى التعريف تعريض بأن المسلمين هم المتعينون للغلبة المعروفون فيها .
وقال صاحب الكشاف : " فإن قلت : أى فائدة فى قوله { نَأْتِي الأرض } ؟ .
قلت : فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدى المسلمين ، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغرو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها ، ناقصة من أطرافها .
وهذان الرأيان مع وجاهتهما ، إلا أن الرأى الأول الذى ذهب إليه ابن كثير أكثر شمولا ، لأنه يتناول ما أصاب المكذبين للرسل السابقين من عقاب كما يشمل التهديد للمكذبين المعاصرين للعهد النبوى ، بأنهم إذا استمروا فى طغيانهم فسيحل بهم ما حل بمن سبقوهم .
وهناك من يرى أن المراد بنقص الرض من أطرافها : موت العلماء ، أو خرابها عند موت أهلها ، أو نقص الأنفس والثمرات . . . . ولكن هذه الآراء ليس معها ما يرجحها .
وبعد هذا الجدل التهكمي الذي يكشف عن سخف ما يعتقده المشركون وخوائه من المنطق والدليل . . يضرب السياق عن مجادلتهم ؛ ويكشف عن علة لجاجتهم ؛ ثم يلمس وجدانهم لمسة تهز القلوب ، وهو يوجهها إلى تأمل يد القدرة ، وهي تطوي رقعة الأرض تحت أقدام الغالبين ، وتقص أطرافها فتردهم إلى حيز منها منزو صغير ، بعد السعة والمنعة والسلطان !
( بل متعنا هؤلاء وآباؤهم حتى طال عليهم العمر . أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ? أفهم الغالبون ? ) . .
فهو المتاع الطويل الموروث الذي أفسد فطرتهم . والمتاع ترف . والترف يفسد القلب ويبلد الحس . وينتهي إلى ضعف الحساسية بالله ، وانطماس البصيرة دون تأمل آياته . وهذا هو الابتلاء بالنعمة حين لا يستيقظ الإنسان لنفسه ويراقبها ، ويصلها دائما بالله ، فلا تنساه .
ومن ثم يلمس السياق وجدانهم بعرض المشهد الذي يقع كل يوم في جانب من جنبات الأرض حيث تطوى رقعة الدول المتغلبة وتنحسر وتتقلص . فإذا هي دويلات صغيرة وكانت إمبراطوريات . وإذا هي مغلوبة على أمرها وكانت غالبة . وإذا هي قليلة العدد وكانت كثيرة . قليلة الخيرات وكانت فائضة بالخيرات . .
والتعبير يرسم يد القدرة وهي تطوي الرقعة وتنقص الأطراف وتزوي الأبعاد . . . فإذا هو مشهد ساحر فيه الحركة اللطيفة ، وفيه الرهبة المخيفة !
ثم وقفهم الله تعالى على مواضع العبر في الأمم وفي البشر بحسب الخلاف والأطراف ، والرؤية في قوله { يرون } رؤية العين تتبعها رؤية القلب ، و { نأتي } معناه بالقدرة والبأس ، و { الأرض } عامة في الجنس . وقوله { من أطرافها } إما أن يريد فيما يخرب من المعمور فذلك نقص للأرض وإما أن يريد موت البشر فهو تنقص للقرون ويكون المراد حينئذ نأتي أهل الأرض ، وقال قوم النقص من الأطراف موت العلماء ثم وقفهم على جهة التوبيخ أهم يعلمون من غلب أهل الأرض قهر الكل بسلطانه وعظمته أي إن ذلك محال بين بل هم مغلوبون مقهورون .