فاسم الإِشارة في قوله - سبحانه - { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } يعود إلى ما تضمنته القصة السابقة من عبر وعظات .
والآيات جمع آية ، والمراد بها هنا الأدلة والعلامات الدالة على ما يوصل إلى الحق والهداية . والمتوسمون : جمع المتوسم ، وهو المتأمل في الأسباب وعواقبها ، وفى المقدمات ونتائجها . .
قال القرطبى ما ملخصه : التوسم تفعل من الوسم ، وهى العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيره . يقال : توسمت في فلان الخير ، إذا رأيت ميسم ذلك فيه ، ومنه قول عبد الله ابن رواحة للنبى صلى الله عليه وسلم .
إنى توسمت فيك الخير أعرفه . . . والله يعلم أنى ثابت البصر
وأصل التوسم : التثبت والتفكر ، مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير وغيره . . وذلك يكون بجودة القريحة ، وحدة الخاطر ، وصفاء الفكر ، وتطهير القلب من أدناس المعاصى .
والمراد بالمتوسمين : " المتفرسين ، أو المتفكرين ، أو المعتبرين ، أو المتبصرين . . والمعنى متقارب . . " .
والمعنى : إن في ذلك الذي سقناه في قصتى إبراهيم ولوط - عليهما السلام - لأدلة واضحة على حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة الغاوين ، لمن كان ذا فكر سليم ، وبصيرة نافذة تتأمل في حقائق الأشياء ، وتتعرف على ما يوصلها إلى الهداية والطريق القويم .
قال بعض العلماء عند تفسيره لهذه الآية : هذه الآية أصل في الفراسة . أخرج الترمذى من حديث أبى سعد مرفوعًا : " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " ثم قرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية . . .
وقد أجاد الكلام في الفراسة ، الراغب الأصفهانى في كتابه " الذريعة " حيث قال في الباب السابع : وأما الفراسة فالاستدلال بهيئة الإِنسان وأشكاله وألوانه وأقواله ، على أخلاقه وفضائله ورذائله . . .
وقد نبه - سبحانه - على صدقها بقوله { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } وبقوله { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } وبقوله { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول } ولفظها مأخوذ من قولهم " فرس السبع الشاه " فكأن الفراسة اختلاف المعارف .
وفى هذه الآية الكريمة تعريض لمن تمر عليهم العبر والعظات . والأدلة الدالة على وحدانية الله - تعالى - ، وكمال قدرته . . . فلا يعتبرون ولا يتعظون ولا يتفكرون فيها ، لانطماس بصيرتهم ، واستيلاء الأهواء والشهوات على نفوسهم ، كما قال - تعالى - { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ }
و «المتوسمون » قال مجاهد المتفرسون ، وقال الضحاك الناظرون ، وقال قتادة المعتبرون ، وقيل غير هذا مما هو قريب منه ، وهذا كله تفسير بالمعنى ، وأما تفسير اللفظة فإن المعاني التي تكون في الإنسان وغيره من خير أو شر يلوح عليه وسم عن تلك المعاني ، كالسكون والدماثة واقتصاد الهيئة التي تكون عن الخير ونحو هذا ، فالمتوسم هو الذي ينظر في وسم المعنى فيستدل به على المعنى ، وكأن معصية هؤلاء أبقت من العذاب والإهلاك وسماً ، فمن رأى الوسم استدل على المعصية به واقتاده النظر إلى تجنب المعاصي لئلا ينزل به ما نزل بهم ، ومن الشعر في هذه اللفظة قول الشاعر : [ الطويل ]
توسمته لما رأيت مهابة . . . عليه وقلت المرء من آل هاشم{[1]}
فظللت فيها واقفاً أتوسم{[2]} . . . وقال آخر :
إني توسمت فيك الخير نافلة{[3]} . . .
جملة { إن في ذلك لأيات للمتوسمين } : تذييل . والآيات : الأدلّة ، أي دلائل على حقائق من الهداية وضدّها ، وعلى تعرُّض المكذبين رُسلهم لعقاب شديد .
والإشارة { في ذلك } إلى جميع ما تضمّنته القصة المبدوءة بقوله تعالى : { ونبئهم عن ضيف إبراهيم } [ سورة الحجر : 51 ] . ففيها من الآيات آية نزول الملائكة في بيت إبراهيم عليه السلام كرامة له ، وبشارته بغلام عليم ، وإعلام الله إيّاه بما سيحلّ بقوم لوط كرامة لإبراهيم عليهما السلام ، ونصر الله لوطاً بالملائكة ، وإنجاء لوط عليه السلام وآله ، وإهلاك قومه وامرأته لمناصرتها إيّاهم ، وآية عماية أهل الضلالة عن دلائل الإنابة ، وآية غضب الله على المسترسلين في عصيان الرّسل .
وتقدم الكلام على لفظ آية عند قوله تعالى : { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } في سورة البقرة ( 39 ) . وقوله : { وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه } في سورة الأنعام ( 37 ) .
والمتوسّمون أصحاب التوسم وهو التأمّل في السّمة ، أي العلامة الدّالة على المعلّم ، والمراد للمتأملين في الأسباب وعواقبها وأولئك هم المؤمنون . وهو تعريض بالّذين لم تردَعْهم العبر بأنهم دون مرتبة النظر تعريضاً بالمشركين الذين لم يتّعظوا ؛ بأن يحلّ بهم ما حلّ بالأمم من قبلهم التي عرفوا أخبارها ورأوا آثارها .