ولكن هؤلاء الذين بعثت فيهم لإنذارهم بعدما أنذرتهم ، انقسموا قسمين : قسم رد لما جئت به ، ولم يقبل النذارة ، وهم الذين قال اللّه فيهم { لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } أي : نفذ فيهم القضاء والمشيئة ، أنهم لا يزالون في كفرهم وشركهم ، وإنما حق عليهم القول بعد أن عرض عليهم الحق فرفضوه ، فحينئذ عوقبوا بالطبع على قلوبهم .
ثم بين - سبحانه - مصير هؤلاء الغافلين ، الذين استمروا فى غفلتهم وكفرهم بعد أن جاءهم النذير ، فقال : { لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } .
والجملة جواب لقسم محذوف . ومعنى { حق } ثبت ووجب .
والمراد بالقول : العذاب الذى أعده الله - تعالى - لهم بسبب إصرارهم على كفرهم .
أى : والله لقد ثبت وتحقق الحكم أزلا بالعذاب على أكثر هؤلاء المنذرين بسبب عدم إيمانهم برسالتك ، وجحودهم الحق الذى جئتهم به ، وإيثارهم باختيارهم الغى على الرشد ، والضلال على الهدى . . .
وقال - سبحانه - { على أَكْثَرِهِمْ } لأن قلة منهم اتبعت الحق ، وآمنت به ، وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ . وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم }
ثم يكشف عن مصير هؤلاء الغافلين ؛ وعما نزل بهم من قدر الله ، وفق ما علم الله من قلوبهم ومن أمرهم . ما كان منه وما سيكون :
( لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون ) . .
لقد قضي في أمرهم ، وحق قدر الله على أكثرهم ، بما علمه من حقيقتهم ، وطبيعة مشاعرهم . فهم لا يؤمنون . وهذا هو المصير الأخير للأكثرين . فإن نفوسهم محجوبة عن الهدى مشدودة عن رؤية دلائله أو استشعارها .
قوله : { لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ } : قال ابن جرير : لقد وجب العذاب على أكثرهم بأن [ الله قد ]{[24664]} حتم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون ، { فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } بالله ، ولا يصدقون رسله .
هذا تفصيل لحال القوم الذين أُرسل محمد صلى الله عليه وسلم لينذرهم ، فهم قسمان : قسم لم تنفع فيهم النذارة ، وقسم اتبعوا الذكر وخافوا الله فانتفعوا بالنذارة . وبيَّن أن أكثر القوم حقت عليهم كلمة العذاب ، أي عَلِم الله أنهم لا يؤمنون بما جَبَل عليه عقولهم من النفور عن الخير ، فحقق في علمه وكَتب أنهم لا يؤمنون ، فالفاء لتفريع انتفاء إيمان أكثرهم على القول الذي حق على أكثرهم .
و { حَق } : بمعنى ثبت ووقع فَلا يقبل نقضاً . و { القول } : مصدر أريد به ما أراده الله تعالى بهم فهو قول من قبيل الكلام النفسي ، أو مما أوحى الله به إلى رسله .
والتعريف في { القول } تعريف الجنس ، والمقول محذوف لدلالة تفريعه عليه .
والتقدير : { لقد حق } القول ، أي القول النفسي وهو المكتوب في علمه تعالى أنهم لا يؤمنون فهم لا يؤمنون .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لقد حق القول على أكثرهم} لقوله لإبليس: {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} [ص:85] لقد حق القول: لقد وجب العذاب على أكثر أهل مكة.
{فهم لا يؤمنون} لا يصدقون بالقرآن...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"لَقَدْ حَقّ القَوْلُ على أكْثَرِهِمْ فَهمْ لا يُؤْمِنُونَ" يقول تعالى ذكره: لقد وجب العقاب على أكثرهم، لأن الله قد حتم عليهم في أمّ الكتاب أنهم لا يؤمنون بالله، ولا يصدّقون رسوله.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
في هذا القول الذي حق عليهم وجهان: أحدهما: أنه الوعيد الذي أوجبه الله تعالى عليهم من العذاب.
الثاني: أنه الإِخبار عنهم بأنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم.
{فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} يعني الأكثرية الذين حق القول عليهم، وهم الذين عاندوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كفار قريش، وأكثرهم لم يؤمنوا فكان المخبر كالخبر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
« لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون» « القول» قوله تعالى « لأملئن جهنم من الجنة والناس أجمعين» (السجدة: 13)، يعني تعلق بهم هذا القول وثبت عليهم ووجب لأنهم ممن علم أنهم يموتون على الكفر
لما بين أن الإرسال أو الإنزال للإنذار، أشار إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس عليه الهداية المستلزمة للاهتداء، وإنما عليه الإنذار وقد لا يؤمن من المنذرين كثير.
الثالث: هو أن يقال المراد منه لقد حق القول الذي قاله الله على لسان الرسل من التوحيد وغيره وبان برهانه فأكثرهم لا يؤمنون بعد ذلك؛ لأن من يتوقف لاستماع الدليل في مهلة النظر يرجى منه الإيمان إذا بان له البرهان، فإذا تحقق وأكد بالإيمان ولم يؤمن من أكثرهم فأكثرهم تبين أنهم لا يؤمنون لمضي وقت رجاء الإيمان، ولأنهم لما لم يؤمنوا عندما حق القول واستمروا؛ فإن كانوا يريدون شيئا أوضح من البرهان فهو العيان وعند العيان لا يفيد الإيمان.
وقوله: {على أكثرهم} على هذا الوجه معناه أن من لم تبلغه الدعوة والبرهان قليلون؛ فحق القول على أكثر من لم يوجد منه الإيمان، وعلى الأول والثاني ظاهر فإن أكثر الكفار ماتوا على الكفر ولم يؤمنوا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان تطاول الإقامة على شيء موجباً للإلف له، والإلف قتال لما يوجب من الإصرار على المألوف لمحبته "وحبك للشيء يعمي ويصم "قال جواباً لمن يتوقع الجواب عما أثمرته حالهم: {لقد حق القول} أي الكامل في بابه وهو إيجاب العذاب بملازمة الغفلة.
{على أكثرهم فهم} أي بسبب ذلك {لا يؤمنون} أي بما يلقى إليهم من الإنذار بل يزيدهم عمى استكباراً في الأرض ومكر السيئ.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{حَق}: بمعنى ثبت ووقع فَلا يقبل نقضاً. و {القول}: مصدر أريد به ما أراده الله تعالى بهم فهو قول من قبيل الكلام النفسي، أو مما أوحى الله به إلى رسله.
والتعريف في {القول} تعريف الجنس، والمقول محذوف لدلالة تفريعه عليه.
والتقدير: {لقد حق} القول، أي القول النفسي وهو المكتوب في علمه تعالى أنهم لا يؤمنون فهم لا يؤمنون...
الحق سبحانه وتعالى سطَّر أزلاً كلَّ ما يكون من مُسْتقبِلي أيِّ دعوة دينية المؤمنين بها والكافرين، لكنه سبحانه ترك للناس الاختيار، وكَوْنه تعالى يسجل ما سيحدث من الناس، ثم يأتي الحدث منهم وفْق ما سجَّل، هذا يعني أن ما قاله قديماً حقٌّ.
والقرآن يقول مرة {حَقَّ الْقَوْلُ} [يس: 7]، ومرة {سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40]، ومرة {وَقَعَ الْقَوْلُ} [النمل: 82].
وكلها تدل على أن ما سبق في علم الله من الإخبار عن مختار اختار الهدى أو الضلال مُسجَّل عنده تعالى، وهو حق كما أخبر الله به، ولو كان العبد غير مختار لَقُلْنا: إن الله قهره على ما أراد، لكنه مختار.
والحق سبحانه له طلاقة القدرة وطلاقة العلم، فلعلمه تعالى بما سيكون سجل وكتب...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
اتّضح أنّ المقصود هم تلك الأكثرية من الرؤوس المشركة الكافرة التي لم تؤمن أبداً، وكذلك كان، فقد قتلوا في حروبهم ضدّ الإسلام وهم على حال الشرك وعبادة الأوثان وما تبقى منهم ظلّ على ضلاله إلى آخر الأمر. وإلاّ فإنّ أكثر مشركي العرب أسلم بعد فتح مكّة بمفاد قوله تعالى: (يدخلون في دين الله أفواجاً).