{ والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم* يحلفون بالله لكم ليرضوكم } ، قال قتادة و السدي : اجتمع ناس من المنافقين فيهم الجلاس بن سويد ، ووديعة بن ثابت ، فوقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير ، وكان عندهم غلام من الأنصار يقال له عامر بن قيس ، فحقروه وقالوا هذه المقالة ، فغضب الغلام وقال : والله إن ما يقول محمد حق وأنتم شر من الحمير ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فدعاهم وسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحلفوا أن عامرا كذاب . وحلف عامر أنهم كذبة فصدقهم النبي صلى الله عليهم وسلم ، فجعل عامر يدعو ويقول : اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال مقاتل والكلبي : نزلت في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك ، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوه يعتذرون إليه ويحلفون ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : { يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين* } .
ثم حكى القرآن بعد ذلك لوناً من جبنهم وعجزهم من مصارحة المؤمنين بالحقائق ، فقال - سبحانه - : { يَحْلِفُونَ بالله . . . الخزي العظيم } .
قال القرطبى : روى قوماً من المنافقين اجتمعوا ، وفيهم غلاما من الأنصار يدعى عامر بن قيس ، فحقروه تكلموا فقالوا : إن كان ما يقوله محمد حقاً لنحن شر من الحمير . فغضب الغلام وقال : والله إن ما يقوله محمد - صلى الله عليه وسلم لحق ، ولأنتم شر من الحمير . ثم أخبر النبى - صلى الله عليه وسلم - بقولهم فحلفوا إن عامرا كاذب .
فقال عامر : هم الكذبة ، وحلف على ذلك وقال : اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب . فأنزل الله هذه الآية .
فقوله - سبحانه - : { يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } خطاب للمؤمنين الذين كان المنافقون يذكرونهم بالسوء ، ثم يأتون إليهم بعد ذلك معتذرين .
أى : إن هؤلاء المافقين يحلفون بالله لكم - أيها المؤمنون - ليرضوكم ، فتطمئنوا إليهم ، وتقبلوا معاذيرهم .
قال أبو السعود : وإفراد إرضائهم بالتعليل مع أن عمدة أغراضهم إرضاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - للإِيذان بأن ذلك بمعز عن أن يكون وسيلة لإرضائه ، وأنه - عليه الصلاة والسلام - إنما لم يكذبهم رفقا بهم ، وسترا لعيوبهم ، لا عن رضا بما فعلوا ، وقبول قلبى لما قالوا . .
وقوله : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } جملة حالية في محل نصب من ضمير " يحلفون " جئ بها لتوبيخهم على إيثارهم رضا الناس على رضا الله ورسوله .
أى : هم يحلفون لكم ، والحال أن رسوله أحق بالإِرضاء منكم لأن الله - تعالى هو خالقهم ورازقهم ومالك أمرهم ، وهو العليم بما ظهر وبطن من أحوالهم . ولأن رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو المبلغ لوحيه - عز وجل - .
قال صاحب المنار ما ملخصه : وكان الظاهر أن يقال : " يرضوهما " ونكتة العدول عنه إلى " يرضوه " : الإِعلام بأن إرضاء رسوله عين إرضائه سبحانه . . وهذا من بلاغة القرآن في نفس الإيجاز . ولو قال " يرضوهما " لما أفاد هذا المعنى ؛ إذ يجوز في نفس العبارة أن يكون إرضاء كل منهما في غير ما يكون به إرضاء الآخر ، وهو خلاف المراد هنا ، وكذلك لو قيل : " والله أحق أن يرضوه ، ورسوله أحق أن يرضوه " لا يفيد هذا المعنى أيضاً وفيه ما فيه من الركاكة والتطويل . .
وقد خرجه علماء النحو على قواعدهم . . وأقرب الأقوال إلأى قواعدهم قول سيبويه : إن الكلام جملتان حذف خبر إحداهما لدلالة خبر الأخرى عليه ، كقول الشاعر :
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأى مختلف . . . فهذا لا تكلف فيه من ناحية التركيب العربى ، ولكن تفوت به النكتة الى ذكرناها . . .
وقوله : { إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } تذييل قصد به بيان أن الإِيمان الحق لا يتم إلا بإرضاء الله ورسوله عن طريق طاعتهما والانقياد لأوامرهما .
أى : إن كانوا مؤمنين حقاً ، فليعملوا على إرضاء الله ورسوله ، بأن يطيعوا أوامرهما ، ويجتنبوا نواهيهما ، وإلا كانوا كاذبين في دعواهم الإِيمان
( يحلفون باللّه لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ) . .
يحلفون بالله لكم ليرضوكم ، على طريقة المنافقين في كل زمان ، الذين يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون من وراء الظهور ؛ ثم يجبنون عن المواجهة ، ويضعفون عن المصارحة ، فيتضاءلون ويتخاذلون للناس ليرضوهم .
( واللّه ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ) . .
فماذا يكون الناس ? وماذا تبلغ قوتهم ? ولكن الذي لا يؤمن باللّه عادة ولا يعنو له ، يعنو لإنسان مثله ويخشاه ؛ ولقد كان خيراً أن يعنو للّه الذي يتساوى أمامه الجميع ، ولا يذل من يخضع له ، إنما يذل من يخضع لعباده ، ولا يصغر من يخشاه ، إنما يصغر من يعرضون عنه فيخشون من دونه من عباد اللّه .
قال قتادة في قوله تعالى : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } الآية ، قال : ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال : والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا ، وإن كان ما يقول محمد حقا ، لهم شر من الحمير . قال : فسمعها رجل من المسلمين فقال : والله إن ما يقول محمد لحق ، ولأنت أشر من الحمار . قال : فسعى بها الرجل إلى النبي{[13591]} صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال : " ما حملك على الذي قلت ؟ " فجعل يلتعن ، ويحلف بالله ما قال ذلك . وجعل الرجل المسلم يقول : اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب . فأنزل الله ، عز وجل : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ }
وقوله تعالى : { يحلفون بالله لكم } الآية ، ظاهر هذه الآية أن المراد بها جميع المنافقين الذين يحلفون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بأنهم منهم في الدين وأنهم معهم في كل أمر وكل حزب ، وهم في ذلك يبطنون النفاق ويتربصون الدوائر وهذا قول جماعة من أهل التأويل ، وقد روت فرقة أنها نزلت بسبب رجل من المنافقين قال إن كان ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم حقاً فأنا شر من الخمر ، فبلغ قوله رسول الله صلى الله وسلم فدعاه ووقف على قوله ووبخه فحلف مجتهداً أنه ما فعل ، فنزلت الآية في ذلك{[5760]} ، وقوله { والله } مذهب سيبويه أنهما جملتان حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها ، والتقدير عنده والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه وهذا كقول الشاعر : [ المنسرح ]
نحن بما عندنا وأنت بما عن*** دك راضٍ والرأي مختلفُ{[5761]}
ومذهب المبرد أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، وتقديره والله أحق أن يرضوه ورسوله قال وكانوا يكرهون أن يجمع الرسول مع الله في ضمير ، حكاه النقاش عنه ، وليس هذا بشيء ، وفي مصنف أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما » فجمع في ضمير ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر «بئس الخطيب أنت » إنما ذلك وقف في«يعصهما » فأدخل العاصي في الرشد{[5762]} ، وقيل الضمير في { يرضوه } عائد على المذكور كما قال رؤبة : [ الرجز ] .
فيها خطوطٌ من سوادٍ وبلقْ*** كأنَّه في الجلد توليعُ البهقْ{[5763]}
عدل عن أسلوب الحكاية عنهم بكلمة ومنهم ، لأنّ ما حكي هنا حال من أحوال جميعهم .
فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ، لإعلام الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنّ المنافقين يحلفون الأيمَان الكاذبة ، فلا تغرّهم أيمانهم ، فضمير يحلفون عائد إلى الذين يؤذون النبي .
والمراد : الحلف الكاذب ، بقرينة قوله : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } ، أي بتركهم الأمور التي حلفوا لأجلها ، على أنّه قد عُلِم أنّ أيمانهم كاذبة ممّا تقدّم في قوله : { وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون } [ التوبة : 42 ] .
فكاف الخطاب للمسلمين ، وذلك يدلّ على أنّ المنافقين يحلفون على التبرّئي ، ممّا يبلغ المسلمين من أقوالهم المؤذية للرسول عليه الصلاة والسلام ، وذلك يغيظ المسلمين وينكرهم عليهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم يغضي عن ذلك ، فلذلك قال الله تعالى : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } أي أحقّ منكم بأن يرضوهما ، وسيأتي تعليل أحقّيّة الله ورسوله بأن يرضوهما في الآية التي بعدها فإرضاء الله بالإيمان به وبرسوله وتعظيمِ رسوله ، وإرضاءُ الرسول بتصديقه ومحبّته وإكرامه .
وإنّما أفرد الضمير في قوله : { أن يرضوه } مع أنّ المعاد اثنان لأنّه أريد عود الضمير إلى أول الاسمين ، واعتبار العطف من عطف الجمل بتقدير : واللَّهُ أحقّ أن يرضوه ورسولُه كذلك ، فيكون الكلام جملتين ثانيتهما كالاحتراس وحذفُ الخبر إيجاز . ومن نكتة ذلك الإشارة إلى التفرقة بين الإرضاءين ، ومنه قول ضابىء بن الحارث :
ومَن يك أمسَى بالمدينة رَحْلُه *** فإنِّي وقيَّارٌ بهَا لَغَرِيب
التقدير : فإنّي لغريبٌ وقيارٌ بها غَريب أيضاً . لأنّ إحدى الغربتين مخالفة لأخراهما .
والضمير المنصوب في { يرضوه } عائد إلى اسم الجلالة ، لأنّه الأهمّ في الخبر ، ولذلك ابتدىء به ، ألا ترى أنّ بيت ضابىء قد جاء في خبره المذكور لام الابتداء الذي هو من علائق ( إنّ ) الكائنة في الجملة الأولى ، دون الجملة الثانية ، وهذا الاستعمال هو الغالب .
وشرط { إن كانوا مؤمنين } ، مستعمل للحثّ والتوقّع لإيمانهم ، لأنّ ما حكي عنهم من الأحوال لا يبقى معه احتمال في إيمانهم ، فاستعمل الشرط للتّوقع وللحثّ على الإيمان . وفيه أيضاً تسجيل عليهم ، إن أعادوا مثل صنيعهم ، بأنّهم كافرون باللَّه ورسوله ، وفيه تعليم للمؤمنين وتحذير من غضب الله ورسوله .