اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمۡ لِيُرۡضُوكُمۡ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَحَقُّ أَن يُرۡضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤۡمِنِينَ} (62)

قوله تعالى : { يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } الآية .

وهذا نوع آخر من قبائح أفعال المنافقين ، وهو إقدامهم على الأيمان الكاذبة ، قال قتادةُ والسديُّ : اجتمع ناس من المنافقين ، فيهم الجلاس بنُ سويدٍ ، ووديعة بنُ ثابت فوقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن شرٌّ من الحمير ، وكان عندهم غلام من الأنصار ، يقال له : عامر بن قيس ، فحقَّروه ، وقالوا هذه المقالة ، فغضب الغلامُ وقال : والله إنَّ ما يقول محمد حق ، وأنتم شرٌّ من الحمير ثم أتَى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فدعاهم ، فسألهم ؛ فحلفوا أنَّ عامراً كذَّاب وحلف عامر أنهم كذبة ، فصدقهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم فجعل عامرٍ يدعو ويقول اللَّهُمَّ صدق الصَّادق وكذب الكاذب ، فأنزل اللهُ هذه الآية{[17934]} . وقال مقاتلٌ والكلبيُّ : نزلت في رهطٍ من المنافقين ، تخلَّفُوا عن غزوة تبوك فلمَّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوهُ يعتذرون ويحلفون ، فأنزل الله تعالى هذه الآية{[17935]} .

قوله : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } .

إنَّما أفرد الضمير ، وإن كان الأصلُ في العطف ب " الواو " المطابقة ، لوجوهٍ :

أحدها : أنَّ رضا الله ورسوله شيءٌ واحد ، { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] ، { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] ؛ فلذلك جعل الضميرين ضميراً واحداً ، تنبيهاً على ذلك .

الثاني : أنَّ الضمير عائدٌ على المثنى بلفظِ الواحد بتأويل المذكور ؛ كقول رؤبة : [ الرجز ]

فِيهَا خُطُوطٌ من سوادِ وبلق *** كأنَّهُ في الجِلْدِ توليعُ البَهَقْ{[17936]}

أي : كأن ذلك المذكور ، وقد تقدم بيان هذا في أوائل البقرةِ .

الثالث : قال المبرد : في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ ، تقديره : واللهُ أحقُّ أن يرضوه ورسوله وهذا على رأي من يدَّعي الحذف من الثاني .

الرابع - وهو مذهب سيبويه - : أنَّه حذف خبر الأوَّل ، وأبقى خبر الثَّاني ، وهو أحسنُ من عكسه ، وهو قول المبرِّدِ ؛ لأن فيه عدم الفصل بين المبتدأ أو خبره بالإخبار بالشيء عن الأقرب إليه ؛ وأيضاً فهو متعين في قول الشَّاعر : [ المنسرح ]

نَحْنُ بِمَا عندنَا وأنتَ بِما *** عِندكَ رَاضٍ والرَّأيُ مُختَلِفُ{[17937]}

أي : نحن راضون ، حذف " راضُون " ، لدلالةِ خبر الثاني عليه .

قال ابنُ عطية{[17938]} : " مذهبُ سيبويه أنَّهُما جملتان ، حذفت الأولى ، لدلالة الثانية عليها " .

قال أبُو حيان{[17939]} : " إن كان الضمير في " أنَّهُمَا " عائداً على كلِّ واحدةٍ من الجملتين ، فكيف يقول " حُذفت الأولى " والأولى لم تحذف ، إنما حذفَ خبرها ؟ وإن كان عائداً على الخبر وهو { أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } فلا يكونُ جملة إلاَّ باعتقاد أن يكون " أن يُرضُوهُ " مبتدأ وخبره " أحَقُّ " مقدماً عليه ، ولا يتعيَّنُ هذا القول ؛ إذْ يجوزُ أن يكون الخبرُ مفرداً بأن يكون التقدير : أحقُّ بأنْ تُرضُوه " .

قال شهابُ الدِّين{[17940]} : إنما أراد ابنُ عطية التقدير الأول{[17941]} ، وهو المشهورُ عند المعربين يجعلون " أحقُّ " خبراً مقدَّماً ، و " أن يُرْضوهُ " مبتدأ مؤخراً ، والله ورسوله إرضاؤه أحقُّ . وتقدم تحرير هذا في قوله : { فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } [ التوبة : 13 ] . قوله { إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } شرطٌ جوابه محذوف أو متقدم .

فصل

قال القرطبيُّ " تضمَّنتْ هذه الآية قبول يمين الحالف ، وإن لم يلزم المحلوف له الرضا ، واليمين حق للمدَّعي ، وأن يكون اليمينُ بالله عزَّ وجلَّ حسبُ . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ حَلفَ فليَحْلفْ باللهِ أو ليَصْمتْ ، ومَنْ حُلفَ لَهُ فليُصدِّق " .


[17934]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/407) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/454) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة. وذكره (3/454) عن السدي وعزاه إلى ابن أبي حاتم.
[17935]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/306-307) والرازي في "التفسير الكبير" (16/95).
[17936]:تقدم.
[17937]:تقدم.
[17938]:ينظر: المحرر الوجيز 3/53.
[17939]:ينظر: البحر المحيط 5/65.
[17940]:ينظر: الدر المصون 3/478.
[17941]:في ب الثاني.