وقوله - سبحانه - : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات سُبْحَانَهُ } ، بيان لرذيلة أخرى من رذائلهم الكثيرة ، وهو معطوف على ماقبله .
وسؤالهم يوم القيامة عما اجترحوه - مع أنه سؤال تقريع وتأنيب - إلا أنه يدل على عدل الله - تعالى - مع هؤلاء الظالمين ؛ لأنه لم يعاقبهم إلا بعد أن سألهم ، وبعد أن ثبت إجرامهم ، وفي ذلك ما فيه من تعليم العباد أن يكونوا منصفين فى أحكامهم .
وهذه الآية الكريمة تحكي ما كان شائعا فى بعض قبائل العرب ، من أنهم كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله . قالوا : وكانت قبيلة خزاعة وقبيلة كنانة تقولان بذلك في الجاهلية .
أي : أن هؤلاء المشركين لم يكتفوا بجعل نصيب مما رزقناهم لآلهتهم ، بل أضافوا إلى ذلك رذيلة أخرى ، وهي أنهم زعموا أن الملائكة بنات الله - تعالى - ، وأشركوها معه فى العبادة .
قوله { سبحانه } مصدر نائب عن الفعل ، وهو منصوب على المفعولية المطلقة ، وهو في محل جملة معترضة ، وقعت جوابا عن مقالتهم السيئة ، التى حكاها الله - تعالى - عنهم ، وهي { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات } ، أي : تنزه وتقدس الله - عز وجل - عن أن يكون له بنات أو بنين ، فهو الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد .
والمراد بما يشتهونه في قوله - عز وجل - : { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } : الذكور من الأولاد . أي : أن هؤلاء المشركين يجعلون لأصنامهم نصيبا مما رزقناهم ، ويجعلون لله - تعالى - البنات ، أما هم فيجعلون لأنفسهم الذكور ، ويختارونهم ليكونوا خلفاء لهم .
وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله - تعالى - : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ }
( ويجعلون لله البنات - سبحانه - ولهم ما يشتهون . وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم . يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ؟ ألا ساء ما يحكمون ! ) . .
إن الانحراف في العقيدة لا تقف آثاره عند حدود العقيدة ، بل يتمشى في أوضاع الحياة الاجتماعية وتقاليدها . فالعقيدة هي المحرك الأول للحياة ، سواء ظهرت أو كمنت . وهؤلاء عرب الجاهلية كانوا يزعمون أن لله بنات - هن الملائكة - على حين أنهم كانوا يكرهون لأنفسهم ولادة البنات ! فالبنات لله أما هم فيجعلون لأنفسهم ما يشتهون من الذكور ! .
وانحرافهم عن العقيدة الصحيحة سول لهم وأد البنات أو الإبقاء عليهن في الذل والهوان من المعاملة السيئة والنظرة الوضيعة . ذلك أنهم كانوا يخشون العار والفقر مع ولادة البنات . إذ البنات لا يقاتلن ولا يكسبن ؛ وقد يقعن في السبي عند الغارات فيجلبن العار ؛ أو يعشن كلا على أهليهن فيجلبن الفقر .
والعقيدة الصحيحة عصمة من هذا كله . إذ الرزق بيد الله يرزق الجميع ؛ ولا يصيب أحد إلا ما كتب له ؛ ثم إن الإنسان بجنسيه كريم على الله ، والأنثى - من حيث إنسانيتها - صنو الرجل وشطر نفسه كما يقرر الإسلام .
ثم أخبر تعالى عنهم ، أنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن ، إناثا ، وجعلوها بنات الله ، وعبدوها معه ، فأخطؤوا خطأ كبيرًا ، في كل مقام من هذه المقامات الثلاث ، فنسبوا إليه تعالى أن له ولدا ، ولا ولد له ! ثم أعطوه أخس القسمين من الأولاد وهو البنات ، وهم لا يرضونها لأنفسهم ، كما قال : { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } [ النجم : 21 ، 22 ] ، وقال هاهنا : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ } ، أي : عن قولهم وإفكهم ، { أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [ الصافات : 151 - 154 ] .
وقوله : { وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ } ، أي : يختارون لأنفسهم الذكور ، ويأنَفُون لأنفسهم من البنات التي نسبوها إلى الله ، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا ، فإنه { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا } ، أي : كئيبا من الهم ، { وَهُوَ كَظِيمٌ } ، ساكت من شدة ما هو فيه من الحزن .
{ ويجعلون لله البنات } ، كانت خزاعة وكنانة يقولون الملائكة بنات الله . { سبحانه } تنزيه له من قولهم ، أو تعجب منه . { ولهم ما يشتهون } ، يعني : البنين ، ويجوز فيما يشتهون الرفع بالابتداء ، والنصب بالعطف على البنات ، على أن الجعل بمعنى الاختيار ، وهو وإن أفضى إلى أن يكون ضمير الفاعل والمفعول لشيء واحد ، لكنه لا يبعد تجويزه في المعطوف .
وقوله : { ويجعلون لله البنات } الآية ، هذا تعديد لقبح قول الكفار : الملائكة بنات الله ، ورد عليهم من وجهين : أحدهما : نسبة النسل إلى الله ، تعالى عن ذلك . والآخر : أنهم نسبوا من النسل الأخس المكروه عندهم ، و { ما } في قوله : { ما يشتهون } ، مرتفعة بالابتداء ، والخبر في المجرور قبله ، وأجاز الفراء أن تكون في موضع نصب عطفاً على { البنات }{[7344]} ، والبصريون لا يجيزون هذا ، لأنه من باب ضربتني ، وكان يلزم عندهم أن يكون لأنفسهم ما يشتهون . والمراد بقوله : { ما يشتهون } : الذكران من الأولاد .
عطف على جملة { ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً مما رزقناهم } [ سورة النحل : 56 ] .
هذا استدلال بنعمة الله عليهم بالبنين والبنات ، وهي نعمة النّسل ، كما أشار إليه قوله تعالى : { ولهم ما يشتهون } ، أي ما يشتهون مما رزقناهم من الذّرية .
وأدمج في هذا الاستدلال وهذا الامتنان ذكرُ ضرب شنيع من ضروب كفرهم . وهو افتراؤهم : أن زعموا أن الملائكة بنات الله من سروات الجنّ ، كما دل عليه قوله تعالى : { وجعلوا بينه وبين الجنّة نسباً } [ سورة الصافات : 158 ] . وهو اعتقاد قبائل كنانة وخزاعة .
و { سبحانه } مصدر نائب عن الفعل ، وهو منصوب على المفعولية المطلقة ، وهو في محل جملة معترضة وقعت جواباً عن مقالتهم السيّئة التي تضمّنتها حكاية { ويجعلون لله البنات } إذ الجعل فيه جعل بالقول ، فقوله : { سبحانه } مثل قولهم : حاش لله ومعاذَ الله ، أي تنزيهاً له عن أن يكون له ذلك .
وإنا قدم { سبحانه } على قوله : { ولهم ما يشتهون } ليكون نصّاً في أن التّنزيه عن هذا الجعل لذاته وهو نسبة البنوّة لله ، لا عن جعلهم له خصوص البنات دون الذكور الذي هو أشدّ فظاعة ، كما دلّ عليه قوله تعالى : { ولهم ما يشتهون } ، لأن ذلك زيادة في التّفظيع ، فقوله : { ولهم ما يشتهون } جملة في موضع الحال . وتقديم الخبر في الجملة للاهتمام بهم في ذلك على طريقة التهكّم .
وما صدق { ما يشتهون } الأبناء الذكور بقرينة مقابلته بالبنات ، وقوله تعالى : { وإذا بشر أحدهم بالأنثى } [ سورة النحل : 58 ] ، أي والحال أن لهم ذكوراً من أبنائهم فهلّا جعلوا لله بنين وبنات . وهذا ارتقاء في إفساد معتقدهم بحسب عرفهم وإلا فإنه بالنسبة إلى الله سواء للاستواء في التولّد الذي هو من مقتضى الحدوث المنزّه عنه واجب الوجود .
وسيخصّ هذا بالإبطال في قوله تعالى : { ويجعلون لله ما يكرهون } [ سورة النحل : 62 ] . ولهذا اقتصر هنا على لفظ البنات الدالّ على الذّوات ، واقتصر على أنهم يشتهون الأبناء ، ولم يتعرّض إلى كراهتهم البنات وإن كان ذلك مأخوذاً بالمفهوم لأن ذلك درجة أخرى من كفرهم ستخصّ بالذّكر .