اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيَجۡعَلُونَ لِلَّهِ ٱلۡبَنَٰتِ سُبۡحَٰنَهُۥ وَلَهُم مَّا يَشۡتَهُونَ} (57)

النوع الثاني من كلماتهم الفاسدة : قوله : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات } ، ونظيره قوله : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً } [ الزخرف : 19 ] ، كانت خزاعة ، وكنانة تقول : الملائكة بنات الله .

قال ابن الخطيب{[19895]} : " أظنُّ أنَّ العرب إنَّما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة ؛ لأن الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - لما كانوا مستترين عن العيون ، أشبهوا النساء في الاستتار ، فأطلقوا عليهم البنات " .

وهذا الذي ظنَّه ليس بشيءٍ ، فإن الجنَّ أيضاً مستترون عن العيون ، ولم يطلقوا عليها لفظ البنات .

ولمَّا حكى عنهم هذا القول قال : " سُبْحَانهُ " ، والمراد : تنزيه ذاته عن نسبة الولد إليه .

وقيل : تعجيب الخلق من هذا الجهل الصَّريح ، وهو وصف الملائكة بالأنوثةِ ، ثم نسبتها بالولدية إلى الله - سبحانه وتعالى - والمعنى : معاذ الله .

قوله : { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } ، يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن هذا الجملة من مبتدأ وخبر ، أي : يجعلون لله البنات ، ثمَّ أخبر أنَّ لهم ما يشتهون .

وجوَّز الفرَّاء ، والحوفيُّ ، والزمخشري ، وأبو البقاء - رحمة الله عليهم - أن تكون " مَا " منصوبة المحلّ ؛ عطفاً على " البَناتِ " و " لَهُمْ " عطف على الله ، أي : ويجعلون لهم ما يشتهون .

قال أبو حيَّان{[19896]} : وقد ذهلوا عن قاعدةٍ نحويَّة ، وهو أنه لا يتعدَّى فعل المضمر إلى ضميره المتَّصلِ ، إلاَّ في باب " ظنَّ " وفي " عَدمَ " و " فَقَد " ولا فرق بين أن يتعدى الفعل بنفسه ، أو بحرف الجرِّ ؛ فلا يجوز : زَيْدٌ ضربه ، أي : ضرب نفسهُ ، ولا " زَيْدٌ مَرَّ بِِهِ " ، أي : مر بنفسه ، ويجوز : " زيد ظنه قائماً " ، و " زيد فقده وعدمه " أي : [ ظن نفسه قائماً ، وفقد ]{[19897]} نفسه ، وعدمها . إذا تقرَّر هذا ، فجعل " مَا " منصوبة عطفاً على " البَناتِ " ، يؤدِّي إلى تعدِّي فعل الضمير المتَّصل ، وهو واو " يَجْعلُونَ " ، إلى ضميره المتَّصل ، وهو " هُمْ " في " لَهُمْ " انتهى .

وهذا يحتاجُ إلى إيضاح أكثر من هذا ؛ وهو أنَّه لا يجوز تعدي فعل الضمير المتصل ، ولا فعل الظاهر إلى ضميرها المتصل ، إلا في باب " ظنَّ " وأخواتها من أفعال القلوب ، وفي " فَقَد " و " عَدمَ " فلا يجوز زيدٌ ضربهُ زيدٌ ، أي : ضَربَ نفسه ، ويجوز : زَيْدٌ ظنَّه قَائماً ، وظنَّه زَيْدٌ قَائِماً ، وزيْدٌ فقَدهُ وعدمهُ ، وفقَدهُ وعَدمهُ زَيْدٌ ، ولا يجوز تعدي فعل المضمر المتصل إلى ظاهر ، في باب من الأبواب ، لا يجوز : زيدٌ ضربَ نَفسَهُ ، وفي قولنا " إلى ضميرها المتصل " قيدان :

أحدهما : كونه ضميراً ، فلو كان ظاهراً كالنَّفس ، لم يمتنع ، نحو : زَيْدٌ ضرب نفسهُ ، وضَرَب نفسه زيد .

والثاني : كونه متَّصلاً ، فلو كان منفصلاً ؛ جاز ، نحو : زيدٌ ما ضرب إلاَّ إيَّاه ، وما ضَربَ زيْدٌ إلاَّ إياه ، وأدلَّة هذه المسألة مذكورة في كتب النَّحو .

وقال مكي{[19898]} : " وهذا لا يجوز عند البصريين ، كما لا يجوز : جعلت لي طعاماً ، إنَّما يجوز جعلت لنفسي طعاماً ، فلو كان لفظ القرآنِ : ولأنفسهم ما يشتهون ، جاز ما قال الفرَّاء{[19899]} عند البصريين ، وهذا أصلٌ يحتاج إلى تعليل ، وبسطٍ كثيرٍ " .

وقال أبو حيَّان - بعدما حكى أنَّ " مَا " في موضع نصبٍ عن الفرَّاء ، ومن تبعه- : وقال أبو البقاءِ ، وقد حكاهُ ؛ وفيه نظرٌ .

قال شهابُ الدِّين{[19900]} : " وأبو البقاء لم يجعل النَّظر في هذا الوجه ، إنَّما جعله في تضعيفه ، بكونه يؤدِّي إلى تعدي فعل المضمر المتَّصل إلى ضميره المتصل في غير ما استثني ، فإنه قال : " وضعَّف قومٌ هذا الوجه ، وقالوا : لو كان كذلك لقال : ولأنفسهم ، وفيه نظرٌ " فجعل النظر في تضعيفه ، لا فيه " .

وقد يقال : وجه النَّظر أنَّ الممتنع تعدى ذلك الفعل ، أي : وقوعه على ما جر بالحرف ، نحو : " زيد مرَّ بِهِ " فإن المرور واقعٌ ب " زيدٍ " ، وأمَّا ما نحن فيه ، فليس الجعل واقعاً بالجاعلين ، بل ما يشتهون .

وكان أبو حيَّان يعترض دائماً على القاعدة المتقدمة بقوله تعالى : { وهزي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة } [ مريم : 25 ] { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب } [ القصص : 32 ] .

والجواب عنهما ما تقدَّم ، وهو أنَّ الهزَّ ، والضَّم ليسا واقعين بالكاف ، وقد تقدَّم لنا هذا البحث في مكانٍ آخر ، وإنَّما أعدته لصعوبته ، وخصوصيته ، هذا بزيادة فائدة ، وأراد بقوله : { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } [ النحل : 57 ] أي : الشيء الذي يشتهونه ، وهو السَّترُ .


[19895]:ينظر: الفخر الرازي 20/44.
[19896]:ينظر: البحر المحيط 5/488.
[19897]:زيادة من: أ.
[19898]:ينظر: المشكل 2/16.
[19899]:ينظر: معاني القرآن للفراء 2/105.
[19900]:ينظر: الدر المصون 4/338.