النوع الثاني من كلماتهم الفاسدة : قوله : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات } ، ونظيره قوله : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً } [ الزخرف : 19 ] ، كانت خزاعة ، وكنانة تقول : الملائكة بنات الله .
قال ابن الخطيب{[19895]} : " أظنُّ أنَّ العرب إنَّما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة ؛ لأن الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - لما كانوا مستترين عن العيون ، أشبهوا النساء في الاستتار ، فأطلقوا عليهم البنات " .
وهذا الذي ظنَّه ليس بشيءٍ ، فإن الجنَّ أيضاً مستترون عن العيون ، ولم يطلقوا عليها لفظ البنات .
ولمَّا حكى عنهم هذا القول قال : " سُبْحَانهُ " ، والمراد : تنزيه ذاته عن نسبة الولد إليه .
وقيل : تعجيب الخلق من هذا الجهل الصَّريح ، وهو وصف الملائكة بالأنوثةِ ، ثم نسبتها بالولدية إلى الله - سبحانه وتعالى - والمعنى : معاذ الله .
قوله : { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } ، يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن هذا الجملة من مبتدأ وخبر ، أي : يجعلون لله البنات ، ثمَّ أخبر أنَّ لهم ما يشتهون .
وجوَّز الفرَّاء ، والحوفيُّ ، والزمخشري ، وأبو البقاء - رحمة الله عليهم - أن تكون " مَا " منصوبة المحلّ ؛ عطفاً على " البَناتِ " و " لَهُمْ " عطف على الله ، أي : ويجعلون لهم ما يشتهون .
قال أبو حيَّان{[19896]} : وقد ذهلوا عن قاعدةٍ نحويَّة ، وهو أنه لا يتعدَّى فعل المضمر إلى ضميره المتَّصلِ ، إلاَّ في باب " ظنَّ " وفي " عَدمَ " و " فَقَد " ولا فرق بين أن يتعدى الفعل بنفسه ، أو بحرف الجرِّ ؛ فلا يجوز : زَيْدٌ ضربه ، أي : ضرب نفسهُ ، ولا " زَيْدٌ مَرَّ بِِهِ " ، أي : مر بنفسه ، ويجوز : " زيد ظنه قائماً " ، و " زيد فقده وعدمه " أي : [ ظن نفسه قائماً ، وفقد ]{[19897]} نفسه ، وعدمها . إذا تقرَّر هذا ، فجعل " مَا " منصوبة عطفاً على " البَناتِ " ، يؤدِّي إلى تعدِّي فعل الضمير المتَّصل ، وهو واو " يَجْعلُونَ " ، إلى ضميره المتَّصل ، وهو " هُمْ " في " لَهُمْ " انتهى .
وهذا يحتاجُ إلى إيضاح أكثر من هذا ؛ وهو أنَّه لا يجوز تعدي فعل الضمير المتصل ، ولا فعل الظاهر إلى ضميرها المتصل ، إلا في باب " ظنَّ " وأخواتها من أفعال القلوب ، وفي " فَقَد " و " عَدمَ " فلا يجوز زيدٌ ضربهُ زيدٌ ، أي : ضَربَ نفسه ، ويجوز : زَيْدٌ ظنَّه قَائماً ، وظنَّه زَيْدٌ قَائِماً ، وزيْدٌ فقَدهُ وعدمهُ ، وفقَدهُ وعَدمهُ زَيْدٌ ، ولا يجوز تعدي فعل المضمر المتصل إلى ظاهر ، في باب من الأبواب ، لا يجوز : زيدٌ ضربَ نَفسَهُ ، وفي قولنا " إلى ضميرها المتصل " قيدان :
أحدهما : كونه ضميراً ، فلو كان ظاهراً كالنَّفس ، لم يمتنع ، نحو : زَيْدٌ ضرب نفسهُ ، وضَرَب نفسه زيد .
والثاني : كونه متَّصلاً ، فلو كان منفصلاً ؛ جاز ، نحو : زيدٌ ما ضرب إلاَّ إيَّاه ، وما ضَربَ زيْدٌ إلاَّ إياه ، وأدلَّة هذه المسألة مذكورة في كتب النَّحو .
وقال مكي{[19898]} : " وهذا لا يجوز عند البصريين ، كما لا يجوز : جعلت لي طعاماً ، إنَّما يجوز جعلت لنفسي طعاماً ، فلو كان لفظ القرآنِ : ولأنفسهم ما يشتهون ، جاز ما قال الفرَّاء{[19899]} عند البصريين ، وهذا أصلٌ يحتاج إلى تعليل ، وبسطٍ كثيرٍ " .
وقال أبو حيَّان - بعدما حكى أنَّ " مَا " في موضع نصبٍ عن الفرَّاء ، ومن تبعه- : وقال أبو البقاءِ ، وقد حكاهُ ؛ وفيه نظرٌ .
قال شهابُ الدِّين{[19900]} : " وأبو البقاء لم يجعل النَّظر في هذا الوجه ، إنَّما جعله في تضعيفه ، بكونه يؤدِّي إلى تعدي فعل المضمر المتَّصل إلى ضميره المتصل في غير ما استثني ، فإنه قال : " وضعَّف قومٌ هذا الوجه ، وقالوا : لو كان كذلك لقال : ولأنفسهم ، وفيه نظرٌ " فجعل النظر في تضعيفه ، لا فيه " .
وقد يقال : وجه النَّظر أنَّ الممتنع تعدى ذلك الفعل ، أي : وقوعه على ما جر بالحرف ، نحو : " زيد مرَّ بِهِ " فإن المرور واقعٌ ب " زيدٍ " ، وأمَّا ما نحن فيه ، فليس الجعل واقعاً بالجاعلين ، بل ما يشتهون .
وكان أبو حيَّان يعترض دائماً على القاعدة المتقدمة بقوله تعالى : { وهزي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة } [ مريم : 25 ] { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب } [ القصص : 32 ] .
والجواب عنهما ما تقدَّم ، وهو أنَّ الهزَّ ، والضَّم ليسا واقعين بالكاف ، وقد تقدَّم لنا هذا البحث في مكانٍ آخر ، وإنَّما أعدته لصعوبته ، وخصوصيته ، هذا بزيادة فائدة ، وأراد بقوله : { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } [ النحل : 57 ] أي : الشيء الذي يشتهونه ، وهو السَّترُ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.