معاني القرآن للفراء - الفراء  
{وَيَجۡعَلُونَ لِلَّهِ ٱلۡبَنَٰتِ سُبۡحَٰنَهُۥ وَلَهُم مَّا يَشۡتَهُونَ} (57)

وقوله : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ57 }

نَصْب ؛ لأنها مصدر ، وفيها معنى من التعّوذ والتنزيه لله عزّ وجلّ . فكأنها بمنزلة قوله : { مَعَاذَ اللهِ } ، وبمنزلة { غَفْرَانَكَ رَبَنا } .

وقوله : { لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ } ، ( ما ) في موضع رفع ، ولو كانت نصباً على : ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون ، لكان ذلك صواباً . وإنما اخترت الرفع ؛ لأن مثل هذا من الكلام ، يجعل ماكان لهم لأنفسهم ؛ أَلا ترى أنك تقول : قد جعلتَ لنفسك كذا وكذا ، ولا تقول : قد جَعلتَ لك . وكلّ فعل أو خافض ذكَرته من مكنّى عائد عليه مكنيّاً ، فاجعل مخفوضه الثاني بالنفس ، فتقول : أنت لنفسك لا لغيرك ، ثم تقول في المنصوب أنت قتلت نفسك ، وفي المرفوع أهلكتْكَ نفسُك ، ولا تقول أهْلَكْتَكَ . وإنما أراد بإدخال النفس ، تفرِقة ما بين نفس المتكلّم وغيره . فإذا كان الفعل واقعاً من مكنّى على مكنّى سواه ، لم تُدخل النفس . تقول غُلامك أهلك مالك ثم تكنى عن الغلام والمال فتقول : هو أهلكه ، ولا تقول : هو أهلك نفسه ، وأنت تريد المال ، وقد تقوله العرب في ظننت وأَخواتها ؛ مِن رأيت ، وعلمت ، وحسبت ، فيقولون : أظنُّني قائما ، ووجدتُني صالحا ؛ لنقصانهما ، وحاجتهما إلى خبر سوى الاسم . وربما اضطُرّ الشاعر فقال : عدمتُني وفقدتُني فهو جائز ، وإن كان قليلا ؛ قال الشاعر - وهو جِرَان العَوْد - :

لقد كان بي عن ضَرَّتين عدِمتُني *** وعما ألاقِي منهما متَزحزَح

هي الغُول والسعلاة حَلْقي منهما *** مُخَدَّشُ فوق التراقي مكدَّح