أي : أحسب الذين همهم فعل السيئات وارتكاب الجنايات ، أن أعمالهم ستهمل ، وأن اللّه سيغفل عنهم ، أو يفوتونه ، فلذلك أقدموا عليها ، وسهل عليهم عملها ؟ { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي : ساء حكمهم ، فإنه حكم جائر ، لتضمنه إنكار قدرة اللّه وحكمته ، وأن لديهم قدرة يمتنعون بها من عقاب اللّه ، وهم أضعف شيء وأعجزه .
ثم بين - سبحانه - أن عقابه للمرتكبين السيئات واقع بهم ، وأنهم إذا ظنوا خلاف ذلك ، فظنهم من باب الظنون السيئة القبيحة ، فقال - تعالى - : { أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } .
و " أم " هنا منقطعة بمعنى بل ، والاستفهام للإِنكار والتوبيخ ، وقوله : { أَن يَسْبِقُونَا } سد مسد مفعولى حسب ، وأصل السبق : الفوت والتقدم على الغير .
والمراد به هنا : التعجيز ، والمعنى : بل أحسب الذين يعملون الأعمال السيئات كالكفر والمعاصى ، " أن يسبقونا " أى : أن يعجزونا فلا نقدر على عقابهم ، أو أن فى إمكانهم أن يهربوا من حسابنا لهم ؟ إن كانوا يظنون ذلك فقد : { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أى : بئس الظن ظنهم هذا ، وبئس الحكم حكمهم على الأمور .
وأما الذين يفتنون المؤمنين ، ويعملون السيئات ، فما هم بمفلتين من عذاب الله ولا ناجين . مهما انتفخ باطلهم وانتفش ، وبدا عليه الانتصار والفلاح . وعد الله كذلك وسنته في نهاية المطاف :
( أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ? ساء ما يحكمون ! ) . .
فلا يحسبن مفسد أنه مفلت ولا سابق ، ومن يحسب هذا فقد ساء حكمه ، وفسد تقديره ، واختل تصوره . فإن الله الذي جعل الابتلاء سنة ليمتحن إيمان المؤمن ويميز بين الصادقين والكاذبين ؛ هو الذي جعل أخذ المسيئين سنة لا تتبدل ولا تتخلف ولا تحيد .
وهذا هو الإيقاع الثاني في مطلع السورة ، الذي يوازن الإيقاع الأول ويعادله . فإذا كانت الفتنة سنة جارية لامتحان القلوب وتمحيص الصفوف ، فخيبة المسيئين وأخذ المفسدين سنة جارية لا بد أن تجيء .
وقوله : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي : لا يحسبن الذين لم يدخلوا في الإيمان أنهم يتخلصون من هذه الفتنة والامتحان ، فإن من ورائهم من العقوبة والنكال ما هو أغلظ من هذا وأطم ؛ ولهذا قال : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا } أي : يفوتونا ، { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي : بئس ما يظنون .
{ أم حسب الذين يعملون السيئات } الكفر والمعاصي فإن العمل يعم أفعال القلوب والجوارح . { أن يسبقونا } أن يفوتونا فلا نقدر أن نجازيهم على مساويهم وهو ساد مسد مفعولي { حسب } لاشتماله على مسند ومسند إليه ويجوز أن يضمن { حسب } معنى قدر أو أم منقطعة والإضراب فيها لأن هذا الحسبان أبطل من الأول ولهذا عقبه بقوله : { ساء ما يحكمون } أي بئس الذي يحكمونه ، أو حكما يحكمونه حكمهم هذا فحذف المخصوص بالذم .
{ أم } معادلة للألف في قوله { أحسب } [ العنكبوت : 1 ] وكأنه عز وجل قرر الفريقين ، قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يفتنون وقرر الكافرين { الذين يعملون السيئات } في تعذيب المؤمنين وغير ذلك على ظنهم أنهم يسبقون عقاب الله ويعجزونه ، وقوله تعالى : { الذي يعملون السيئات } ، وإن كان الكفار المراد الأول بحسب النازلة التي الكلام فيها فإن لفظ الآية يعم كل عاص وعامل سيئة من المسلمين وغيرهم ، وقوله { ساء ما يحكمون } يجوز أن يكون { ما } بمعنى الذي فهي في موشع رفع ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على تقدير ساء حكماً يحكمونه{[9206]} ، وقال ابن كيسان : { ما } مع { يحكمون } في موضع المصدر كأنه قال : ساء حكمهم ، وفي هذه الآية وعيد للكفرة الفاتنين ، وتأنيس وعده بالنصر للمؤمنين المفتونين المغلوبين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم وعظ كفار العرب، فقال سبحانه: {أم حسب الذين يعملون السيئات} يعني {أن يسبقونا} يعني: أن يفوتونا بأعمالهم السيئة حتى يجزيهم بها في الدنيا، فقتلهم الله عز وجل ببدر... ثم قال عز وجل: {ساء ما يحكمون} يعني: ما يقضون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أم حسب الذين يشركون بالله فيعبدون معه غيره، وهم المعنيون بقوله "الّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئاتِ أنْ يَسْبَقُونا "يقول: أن يعجزونا فيفوتونا بأنفسهم، فلا نقدر عليهم فننتقم منهم لشركهم بالله؟
وقوله: "ساءَ ما يَحْكُمونَ" يقول تعالى ذكره: ساء حكمهم الذي يحكمون بأن هؤلاء الذين يعملون السيئات يسبقوننا بأنفسهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أم حسب الذين يعملون السيئات} هذا أيضا يخرّج على وجهين:
{أن يسبقونا} لا أحد يظن أن يسبق الله في عذابه ونقمته. لكنهم إذا رأوا الكافر والمسلم في هذه الدنيا على السواء في نعيمها وسعتها، ورأوا أيضا عند الموت أن لم ينزل على الكافر عذاب كالمسلم ظنوا أن لا بعث، ذلك ظن الذين كفروا؛ حملهم ذلك على إنكار البعث كقوله: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا} [ص: 27] حين خلقهما إذا لم يكن بعث. وهم قد علموا أن الله، خلقه إياهما، ليس بباطل، ولكن صيّر خلقهما، إذا لم يكن بعث باطلا. فإذا أنكروا البعث ظنوا أن لا عذاب، ولا جزاء، والله أعلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يرتكبون المخالفاتِ ثم يحكمون لأنفسهم بالنجاة.. ساءَ حُكْمُهم! فمتى ينجوا منَ العذابِ مَنْ ألقى جلبابَ التُّقى؟!... ويقال اغتروا بإمهالنا اليومَ، وَتَوَهَّموا أنهم مِنَّا قد أفلتوا، وظنوا أنهم قد أَمِنُوا. ويقال ظنوا أنهم باجتراحهم السيئاتِ أَنْ جرى التقريرُ لهم بالسعادة، وأنَّ ذلك يؤخر حُكْمَنا.. كلا، فلا يشقى مَنْ جَرَتْ قسمتُنا له بالسعادة، وهيهات أن يتحول مَنْ سبق له الحُكْمُ بالشقاوة!.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
السيئة: كل خصلة تسوء عاقبتها، والحسنة: كل خصلة تسر عاقبتها.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
..."أم" منقطعة. ومعنى الإضراب فيها: أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأوّل، لأن ذاك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه، وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه
{سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} بئس الذي يحكمونه حكمهم هذا. أو بئس حكماً يحكمونه حكمهم هذا، فحذف المخصوص بالذم.
لما بين حسن التكليف بقوله: {أحسب الناس أن يتركوا} بين أن من كلف بشيء ولم يأت به يعذب وإن لم يعذب في الحال فسيعذب في الاستقبال ولا يفوت الله شيء في الحال ولا في المآل... فقال تعالى: {أم حسب الذين يعلمون السيئات أن يسبقونا} يعني ليس كما قالوا بل يعذب من يعذب ويثيب من يثيب بحكم الوعد والإيعاد والله لا يخلف الميعاد، وأما الإمهال فلا يفضي إلى الإهمال، والتعجيل في جزاء الأعمال شغل من يخاف الفوت لولا الاستعجال.
{ساء ما يحكمون} يعني حكمهم بأنهم يعصون ويخالفون أمر الله ولا يعاقبون حكم سيء، فإن الحكم الحسن لا يكون إلا حكم العقل أو حكم الشرع والعقل لا يحكم على الله بذلك فإن الله له أن يفعل ما يريد والشرع حكمه بخلاف ما قالوه، فحكمهم حكم في غاية السوء والرداءة.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
... وجاء بالمضارع، وهو {يحكمون}، قيل: إشعاراً بأن حكمهم مذموم حالاً واستقبالاً، وقيل: لأجل الفاصلة وقع المضارع موقع الماضي اتساعاً.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
لا يحسبن الذين لم يدخلوا في الإيمان أنهم يتخلصون من هذه الفتنة والامتحان، فإن من ورائهم من العقوبة والنكال ما هو أغلظ من هذا وأطم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أثبت سبحانه بهذا علمه الشامل وقدرته التامة في الدنيا، عادله بما يستلزم مثل ذلك في الآخرة، فكان حاصل ما مضى من الاستفهام: أحسب الناس أنا لا نقدر عليهم ولا نعلم أحوالهم في الدنيا أم حسبوا أن ذلك لا يكون في الأخرى، فيذهب ظلمهم في الدنيا وتركهم لأمر الله وتكبرهم على عباده مجاناً، فيكون خلقنا لهم عبثا لا حكمة فيه، بل الحكمة في تركه، وهذا الثاني هو معنى قوله منكراً أم حسب، أو يكون المعنى أنه لما أنكر على الناس عموماً ظنهم الإهمال، عُلم أن أهل السيئات أولى بهذا الحكم، فكان الإنكار عليهم أشد، فعادل الهمزة بأم في سياق الإنكار كما عادلها بها في قوله: (أتخذتم عند الله عهداً} [البقرة: 80] الآية، فقال: {أم حسب} أي ظن ظناً يمشي له ويستمر عليه، فلا يبين له جهله فيه بأمر يحسبه فلا يشتبه عليه بوجه.
{الذين يعملون السيئات} أي التي منعناهم بأدلة النقل المؤيدة ببراهين العقل -منها بالنهي عنها، ووضع موضع المفعولين ما اشتمل على مسند ومسند إليه من قوله: {أن يسبقونا}...
{ساء ما يحكمون} أي ما أسوأ هذا الذي أوقعوا الحكم به لأنفسهم لأن أضعفهم عقلاً لا يرضى لعبيده أن يظلم بعضهم بعضاً ثم لا ينصف بينهم فكيف يظنون بنا ما لا يرضونه لأنفسهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وأما الذين يفتنون المؤمنين، ويعملون السيئات، فما هم بمفلتين من عذاب الله ولا ناجين. مهما انتفخ باطلهم وانتفش، وبدا عليه الانتصار والفلاح. وعد الله كذلك وسنته في نهاية المطاف:
(أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا؟ ساء ما يحكمون!)..
فلا يحسبن مفسد أنه مفلت ولا سابق، ومن يحسب هذا فقد ساء حكمه، وفسد تقديره، واختل تصوره. فإن الله الذي جعل الابتلاء سنة ليمتحن إيمان المؤمن ويميز بين الصادقين والكاذبين؛ هو الذي جعل أخذ المسيئين سنة لا تتبدل ولا تتخلف ولا تحيد.
وهذا هو الإيقاع الثاني في مطلع السورة، الذي يوازن الإيقاع الأول ويعادله. فإذا كانت الفتنة سنة جارية لامتحان القلوب وتمحيص الصفوف، فخيبة المسيئين وأخذ المفسدين سنة جارية لا بد أن تجيء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أم حسبوا أن قد شفوا غيظهم من المؤمنين، فهم بذلك غلبوا أولياءنا فغلبونا...
وهذه الآية وإن كانت واردة في شأن المشركين المؤذين للمؤمنين فهي تشير إلى تحذير المسلمين من مشابهتهم في اقتراف السيئات استخفافاً بوعيد الله عليها لأنهم في ذلك يأخذون بشيء من مشابهة حسبان الانفلات، وإن كان المؤمن لا يظن ذلك ولكنه ينزل منزلة من يظنه لإعراضه عن الوعيد حين يقترف السيئة.