اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن يَسۡبِقُونَاۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ} (4)

قوله تعالى : { أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات } «أم » هذه منقطعة{[41042]} ، فتقدر ببل والهمزة عند الجمهور{[41043]} ، والإضراب انتقال لا إبطال .

قال ابن عطية : أم معادلة{[41044]} للألف في قوله : «أحسب » وكأنه عزّ وجلّ قرر الفريقين ، قرر المؤمنين أنهم لا يفتنون ، وقرر الكافرين أنهم يسبقون نقمات الله{[41045]} .

قال أبو حيان : «ليست معادلة » ؛ إذ لو كانت كذلك لكانت متصلة ، ولا جائز أن تكون متصلة لفقد شرطين :

أحدهما : أن ما بعدها ليس مفرداً ، ولا ما في قوته .

والثاني : أنه لم يكن هنا ما يجاب به من أحد شيئين أو أشياء{[41046]} .

وجوز الزمخشري في «حسب » هذه أن تتعدى لاثنين ، وجعل «أن » وما في خبرها سادةً مسدهما ، كقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة } [ البقرة : 214 ] ، وأن تتعدى لواحدٍ على أنها مضمنة معنى «قدر »{[41047]} ، إلا أن التضمين لا ينقاس{[41048]} .

قوله : { ساء ما يحكمون } يجوز أن تكون «ساء » بمعنى بئس فتكون «ما » إما موصولة بمعنى الذي ، و «يحكمون » صلتها ، وهي فاعل ساء ، والمخصوص بالذم محذوف أي حكمهم{[41049]} .

ويجوز أن تكون «ما » تمييزاً ، و «يحكمون » صفتها ، والفاعل مضمر يفسره «ما » والمخصوص أيضاً محذوف{[41050]} .

ويجوز أن تكون ساء بمعنى قَبُحَ ، فيجوز في «ما » أن تكون مصدرية ، وبمعنى الذي ، ونكرة موصوفة{[41051]} ، وجيء ب «يحكمون » دون «حكموا » إما للتنبيه على أن هذا ديدنهم وإما لوقوعه موقع الماضي لأجل الفاصلة .

ويجوز أن تكون ما مصدرية وهو قول ابن كَيْسَانَ{[41052]} فعلى هذا يكون التمييز محذوفاً ، والمصدر المؤوّل مخصوص بالذم أي ساء حكماً حكمُهُمْ{[41053]} .

وقد تقدم حكم «ما » إذا اتصلت ببئس مشبعاً في البقرة{[41054]} .

فصل :

لما بين حسن التكليف بقوله : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا } بين أن من كلف بشيء ولم يأت به يعذب ، وإن لم يعذب في الحال فسيعذب في الاستقبال ، ولا يفوت الله شيء . في الحال ولا في المآل .

فقوله : { أم حسب الذين يعملون السيئات } يعني الشرك «أن يسبقونا » أي يعجزونا ويفوتونا ، فلا نقدر على الانتقام منهم { ساء ما يحكمون } بئس ما حكموا حين ظنوا ذلك .


[41042]:معنى أم المنقطعة التي لا يفارقها الإضراب ثم تارة تكون له مجرداً، وتارة تتضمن مع ذلك استفهاماً إنكارياً أو استفهاماً طلبياً. والآية التي معنا من العنكبوت من النوع الثاني أي التي تتضمن استفهاماً إنكارياً، وهي شبيهة بقوله تعالى: {ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها}[الأعراف: 195].
[41043]:هذا هو رأي البصريين أنها أبداً بمعنى بل والهمزة، وقد خالفهم الكوفيون في ذلك.
[41044]:مقصوده أن أم هنا متصلة، فالمعادلة هي التي تعادل الهمزة في إفادة التسوية أو الاستفهام، أو يقال: هي التي لا يستغني ما بعدها عما قبلها.
[41045]:البحر المحيط 7/140، والدر المصون 4/293.
[41046]:بالمعنى من البحر له 7/140 وباللفظ من الدر المصون 4/293.
[41047]:وعلى هذا فأم منقطعة قال في الكشاف 3/196: فإن قلت: أين مفعولا حسب؟ قلت: اشتمال صلة أن على مسند ومسند إليه سد مسد مفعولين، كقوله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة} ويجوز أن يضمن حسب معنى قدر وأم منقطعة.
[41048]:قاله السمين في الدر 4/293.
[41049]:نقله في التبيان 2/1029 وإعراب القرآن للنحاس 3/248، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج 4/160.
[41050]:الدر المصون 4/293.
[41051]:المرجع السابق ومشكل إعراب القرآن 2/166.
[41052]:هو أبو الحسن محمد بن أحمد بن كيسان النحوي، كان أحد المشهورين بالعلم، والمعروفين بالفهم أخذ عن المبرد، وثعلب، وكان قيماً بمذهب البصريين والكوفيين، له المهذب في النحو، وشرح السبع الطوال إلى غير ذلك، مات سنة 299 هـ، انظر: النزهة 162، 161.
[41053]:إعراب النحاس 2/248، والمشكل المرجع السابق، والبحر المحيط 7/141، والقرطبي 13/327. وقد نقل القرطبي قولاً عن ابن كيسان: قال أبو الحسن بن كيسان: وأنا أختار أن أجعل لـ "ما" موضعاً في كل ما أقدر عليه نحو قوله عز وجل فبما رحمة من الله لنت لهم، وكذا: فبما نقضهم ميثاقهم، وكذا "أيما الأجلين قضيت" القرطبي 13/327.
[41054]:يشير إلى الآية 90 من البقرة وهي قوله: {بئسما اشتروا به أنفسهم} وقد بين هناك أن "ما" إما أن تكون في موضع رفع فاعل بئس، وعليه فيجوز أن تكون اسماً تامّاً معرفة ويكون الفعل وصفاً لموصوف محذوف هو المخصوص أو تكون موصولة، والفعل بعدها صلة لها، والمخصوص محذوف، أو يكتفى بها عن المخصوص وأن تكون مصدرية أو نكرة موصوفة والمخصوص محذوف. والوجه الثاني: أن تكون "ما" كافة كما في طال، وكثر وغير ذلك. والوجه الثالث: أن تكون تمييزاً فموضعها نصب وعليه فهي إما أن تكون نكرة موصوفة بالفعل بعدها أو نكرة ثابتة. وانظر اللباب بتصرف 301 ب.