ثم هدد - سبحانه - الذين يحاربون دعوة الحق ، ويصفون القرآن بأوصاف لا تليق به فقال - تعالى - : { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ
والكاف في قوله { كما } للتشبيه ، و { ما } موصوله أو مصدرية وهى المشبه به أما المشبه فهو الإيتاء المأخوذ من قوله - تعالى - { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني
ولفظ { المقتسمين } افتعال من القسم بمعنى تجزئة الشئ وجعله أقسامًا . .
والمراد بهم بعض طوائف أهل الكتاب ، الذين آمنوا ببعضه وكفروا بالبعض الآخر .
أو المراد بهم - كما قال ابن كثير : " { المقتسمين } أى المتحالفين ، أى الذين تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم . . . " .
ولفظ { عضين } جمع عضة - بزنة عزة - ، وهى الجزء والقطعة من الشئ . تقول : عضيت الشئ تعضية ، أى : فرقته وجعلته أجزاء كل فرقة عضة .
قال القرطبى ما ملخصه : وواحد العضين عضة ، من عضيت الشئ تعضية أى فرقته ، وكل فرقة عضة . قال الشاعر : وليس دين الله بالمعضى . أى : بالمفرق
والعضة والعضين في لغة قريش السحر . وهم يقولون للساحر عاضه ، وللساحرة عاضهة . . .
وفى الحديث : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة أى الساحرة والمستسحرة " . وقيل : هو من العضة ، وهى التميمة . والعضيهة : البهتان . . . يقال : أعضهت يا فلان أى : جئت بالبهتان .
والمعنى : ولقد آتيناك - أيها الرسول الكريم - السبع المثانى والقرآن العظيم ، مثل ما أنزلنا على طوائف أهل الكتاب المقتسمين ، أى الذين قسموا كتابهم أقسامًا ، فأظهروا قسمًا وأخفوا آخر ، والذين جعلوا - أيضًا - القرآن أقسامًا ، فآمنوا ببعضه ، وكفروا بالبعض الآخر .
. فجعله { الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ } بيان وتوضيح للمقتسمين .
ومنهم من يرى أن قوله - تعالى - { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين . . . } متعلق بقوله - تعالى - قبل ذلك ، { وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين } ، فيكون المشبه الإِنذار بالعقاب المفهوم من الآية الكريمة . وأن المراد بالمقتسمين : جماعة من مشركى قريش ، قسموا أنفسهم أقسامًا لصرف الناس عن الإِيمان بالنبى صلى الله عليه وسلم .
والمعنى : وقل - أيها الرسول الكريم - إنى أنا النذير المبين لكم من عذاب مثل عذاب المقتسمين . . .
وقد فصل الإِمام الآلوسى القول عند تفسيره لهاتين الآيتين فقال ما ملخصه : قوله - تعالى - { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين . . . } متعلق بقوله - تعالى - { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً . . . } على أن يكون في موضع نصب نعتا لمصدر من آتينا محذوف أى : آتيناك سبعا من المثانى إيتاء كما أنزلنا ، وهو في معنى : أنزلنا عليك ذلك إنزالاً كإنزالنا على أهل الكتاب { الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ } أى قسموه إلى حق وباطل . .
وقيل : هو متعلق بقوله - تعالى - : { وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين } . . وجوز أن يراد بالمقتسمين جماعة من قريش . . . أرسلهم الوليد بن المغيرة ، أيام موسم الحج ، ليقفوا على مداخل طرق مكة ، لينفروا الناس عن الإِيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم فانقسموا على هاتيك المداخل ، يقول بعضهم لا تغتروا بالخارج فإنه ساحر . .
أى : وقل إنى أنا النذير عذابا مثل العذاب الذي أنزلناه على المقتسمين .
وقيل المراد بالمقتسمين ، الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحًا - أى يقتلوه ليلاً - فأهلكهم الله . . .
ثم قال - رحمه الله - : والأقرب من الأقوال المذكورة أن قوله { كما أنزلنا . . } متعلق بقوله - تعالى - { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً . . . } وأن المراد بالمقتسمين أهل الكتابين ، وأن الموصول مع صلته ، صفة مبينة لكيفية اقتسامهم . . .
والمعنى : لقد آتيناك سبعًا من المثانى والقرآن العظيم ، إيتاء مماثلاً لإِنزال الكتابين على أهلهما . . . .
ويبدو لنا أن من الأفضل أن يكون المراد بالمقتسمين ، ما يشمل أهل الكتابين وغيرهم من المشركين المتحالفين على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم - كما قال ابن كثير - وقد ذهب إلى ذلك الإِمام ابن جرير ، فقد قال - رحمه الله - بعد سرده للأقوال في ذلك ما ملخصه : " والصواب من القول في ذلك عندى أن يقال : إن الله - تعالى - أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلم قومه الذين عضوا القرآن ففرقوه ، أنه نذير لهم من سخط الله وعقوبته ، أن يحل بهم ما حل بالمقتسمين من قبلهم ومنهم " . . .
وجائز أن يكون عنى بالمقتسمين : أهل الكتابين .
. وجائز أن يكون عنى بذلك : المشركين من قريش ، لأنهم اقتسموا القرآن ، فسماه بعضهم شعرا ، وسماه بعضهم كهانة . . .
وجائز أن يكون عنى به الفريقين . . . وممكن أن يكون عنى به المقتسمين على صالح من قومه . لأنه ليس في التنزيل ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في فطرة العقل ، ما يدل على أنه عنى به أحد الفرق الثلاثة دون الآخرين ، وإذا فكل من اقتسم كتابًا لله بتكذيب بعض وتصديق بعض ، كان داخلاً في هذا التهديد والوعيد . . . .
( وقل : إني أنا النذير المبين ) . . تلك القولة التي قالها كل رسول لقومه ؛ ومنهم بقايا الأقوام التي جاءها أولئك الرسل بتلك النذارة البينة التي جئت بها قومك . . وكان منهم في الجزيرة العربية اليهود والنصارى . . ولكن هذه البقايا لم تكن تتلقى هذا القرآن بالتسليم الكامل ، إنما كانت تقبل بعضه وترفض بعضه ، وفق الهوى ووفق التعصب وهؤلاء هم الذين يسميهم الله هنا : ( المقتسمين ، الذين جعلوا القرآن عضين ) . .
وقوله : { الْمُقْتَسِمِينَ } أي : المتحالفين ، أي : تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم ، كما قال تعالى إخبارًا عن قوم صالح أنهم : { قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } [ النمل : 46 ] أي : نقتلهم ليلا قال مجاهد : تقاسموا : تحالفوا .
{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ } [ النحل : 38 ] { أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ } [ إبراهيم : 44 ] { أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ } [ الأعراف : 49 ] فكأنهم كانوا لا يكذبون بشيء إلا أقسموا عليه ، فسموا مقتسمين .
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : المقتسمون أصحاب صالح ، الذين تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله .
وفي الصحيحين ، عن أبي موسى [ الأشعري ]{[16260]} عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به ، كمثل رجل أتى قومه فقال : يا قوم ، إني رأيت الجيش بعيني ، وإني أنا النذير العريان ، فالنجاء النجاء ! فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا ، وانطلقوا على مهلهم فنجوا ، وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم ، فصبَّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم ، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به ، ومثل من عصاني وكَذب ما جئت به من الحق " {[16261]}
القول في تأويل قوله تعالى { وَقُلْ إِنّيَ أَنَا النّذِيرُ الْمُبِينُ * كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْآنَ عِضِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وقل يا محمد للمشركين إني أنا النذير الذي قد أبان إنذاره لكم من البلاء والعقاب أن ينزل بكم من الله على تماديكم في غيكم كما أَنْزَلْنَا على المُقْتَسِمِينَ يقول : مثل الذي أنزل الله تعالى من البلاء والعقاب على الذين اقتسموا القرآن ، فجعلوه عِضِين .
ثم اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بقوله : المُقْتَسِمِينَ ، فقال بعضهم : عني به . اليهود والنصارى ، وقال : كان اقتسامهم أنهم اقتسموا القرآن وعضّوه ، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه . ذكر من قال ذلك :
حدثني عيسى بن عثمان الرملي ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن أبي ظَبْيان ، عن ابن عباس ، في قوله الله : كمَا أنْزَلْنا على المُقْتَسِمِينَ الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قال : هم اليهود والنصارى ، آمنوا ببعض وكفروا ببعض .
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : كمَا أنْزَلْنا على المُقْتَسِمينَ الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قال : هم أهل الكتاب ، جزّءوه فجعلوه أعضاء أعضاء ، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، في قوله : كمَا أنْزَلْنا على المُقْتَسِمِينَ الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قال : الذين آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، قال : المُقْتَسِمِينَ أهل الكتاب . الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قال : يؤمنون ببعض ، ويكفرون ببعض .
حدثني مطر بن محمد الضّبّيّ ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، أنه قال في قوله : كمَا أنْزَلْنا على المُقْتَسِمِينَ قال : هم أهل الكتاب .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الاَية : كمَا أنْزَلْنا على المُقْتَسِمِينَ الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قال : هم أهل الكتاب ، آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قال : هم أهل الكتاب جزّءوه فجعلوه أعضاء ، فأمنوا ببعضه وكفروا ببعضه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : جزّءوه فجعلوه أعضاء كأعضاء الجزور .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن منصور ، عن الحسن ، قال : هم أهل الكتاب .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : كمَا أنْزَلْنا على المُقْتَسِمِينَ قال : هم اليهود والنصارى من أهل الكتاب ، قسموا الكتاب فجعلوه أعضاء ، يقول : أحزابا ، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : المُقْتَسِمِينَ آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض ، وفرقوا الكتاب .
وقال آخرون : المُقْتَسِمِينَ أهل الكتاب ، ولكنهم سموا المقتسمين ، لأن بعضهم قال استهزاء بالقرآن : هذه السورة لي ، وقال بعضهم : هذه لي . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك ، عن عكرمة أنه قال في هذه الاَية : الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قال : كانوا يستهزءون ، يقول هذا : لي سورة البقرة ، ويقول هذا : لي سورة آل عمران .
وقال آخرون : هم أهل الكتاب ، ولكنهم قيل لهم : المقتسمون لاقتسامهم كتبهم وتفريقهم ذلك بإيمان بعضهم ببعضها وكفره ببعض ، وكفر آخرين بما آمن به غيرهم وإيمانهم بما كفر به الاَخرون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد : كمَا أنْزَلْنا على المُقْتَسِمِينَ الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قال : هم اليهود والنصارى ، قسموا كتابهم ففرّقوه وجعلوه أعضاء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثني الحسن قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كمَا أنْزَلْنا على المُقْتَسِمِينَ قال : أهل الكتاب فرقوه وبدّلوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : كمَا أنْزَلْنا على المُقْتَسِمِينَ قال : أهل الكتاب .
وقال آخرون : عُنِي بذلك رهط من كفار قريش بأعيانهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : كمَا أنْزَلْنا عَلَى المُقْتَسِمِينَ الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ رهط خمسة من قريش ، عَضّهُوا كتاب الله .
وقال آخرون : عُنِيَ بذلك رهط من قوم صالح الذين تقاسموا على تبييت صالح وأهله . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : كمَا أنْزَلْنا على المُقْتَسِمِينَ قال : الذين تقاسموا بصالح . وقرأ قول الله تعالى : وكانَ فِي المَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ قال : تقاسموا بالله حتى بلغ الاَية .
وقال بعضهم : هم قوم اقتسموا طرق مكة أيام قدوم الحاجّ عليهم ، كان أهلها بعثوهم في عقابها ، وتقدموا إلى بعضهم أن يشيع في الناحية التي توجه إليها لمن سأله عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من القادمين عليهم ، أن يقول : هو مجنون ، وإلى آخر : إنه شاعر ، وإلى بعضهم : إنه ساحر .
القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُعلم قومه الذين عضّوا القرآن ففرقوه ، أنه نذير لهم من سخط الله تعالى وعقوبته أن يَحُلّ بهم على كفرهم ربهم وتكذيبهم نبيهم ما حلّ بالمقتسمين من قبلهم ومنهم . وجائز أن يكون عني بالمقتسمين : أهل الكتابين التوراة والإنجيل ، لأنهم اقتسموا كتاب الله ، فأقرّت اليهود ببعض التوراة وكذبت ببعضها وكذبت بالإنجيل والفرقان ، وأقرّت النصارى ببعض الإنجيل وكذّبت ببعضه وبالفرقان . وجائز أن يكون عُنِي بذلك : المشركون من قريش ، لأنهم اقتسموا القرآن ، فسماه بعضهم شعرا وبعض كهانة وبعض أساطير الأوّلين . وجائز أن يكون عُنِي به الفريقان . وممكن أن يكون عُنِيَ به المقتسمون على صالح من قومه .
فإذ لم يكن في التنزيل دلالة على أنه عُني به أحد الفرق الثلاثة دون الاَخرين ، ولا في خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا في فطرة عقل ، وكان ظاهر الاَية محتملاً ما وصفت ، وجب أن يكون مقتضيّا بأن كلّ من اقتسم كتابا لله بتكذيب بعض وتصديق بعض ، واقتسم على معصية الله ممن حلّ به عاجل نقمة الله في الدار الدنيا قبل نزول هذه الاَية ، فداخل في ذلك لأنهم لأشكالهم من أهل الكفر بالله كانوا عبرة وللمتعظين بهم منهم عظَة .
واختلفت أهل التأويل في معنى قوله : الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ فقال بعضهم : معناه : الذين جعلوا القرآن فِرَقا مفترقة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قال : فرقا .
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : جزّءوه فجعلوه أعضاء ، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : جزّءوه فجعلوه أعضاء كأعضاء الجزور .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا طلحة ، عن عطاء : الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنِ عِضِينَ قال : المشركون من قريش ، عَضّوُا القرآن فجعلوه أجزاء ، فقال بعضهم : ساحر ، وقال بعضهم : شاعر ، وقال بعضهم : مجنون فذلك العِضُون .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : في قوله : جَعَلُوا القُرآنَ عَضِينَ : جعلوا كتابهم أعضاء كأعضاء الجزور ، وذلك أنهم تقطعوه زبرا ، كل حزب بما لديهم فرحون ، وهو قوله : فَرّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ عضهوا كتاب الله زعم بعضهم أنه سِحْر ، وزعم بعضهم أنه شِعْر ، وزعم بعضهم أنه كاهن قال أبو جعفر : هكذا قال كاهن ، وإنما هو كهانة وزعم بعضهم أنه أساطير الأوّلين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس : الّذِينَ جَعَلُوا الْقُرآنَ عِضِينَ قال : آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض .
حدثني يونس ، قال : أخبرني ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قال : جعلوه أعضاء كما تُعَضّى الشاة . قال بعضهم : كهَانة ، وقال بعضهم : هو سحر ، وقال بعضهم : شعر ، وقال بعضهم أساطِيرُ الأوّلِينَ اكْتَتَبَها . . . الاَية . جعلوه أعضاء كما تُعَضّى الشاة .
فوجه قائلو هذه المقالة قوله : عِضِينَ إلى أن واحدها : عُضْو ، وأن عِضِينَ جمعه ، وأنه مأخوذ من قولهم عَضّيت الشيء تعضية : إذا فرقته ، كما قال رُؤْبة :
*** وليس دينُ اللّهِ بالمُعَضّى ***
يعني بالمفرّق . وكما قال الاَخر :
وعَضّى بَنِي عَوْفٍ فأمّا عَدُوّهُمْ *** فأرْضَى وأمّا الْعِزّ منهُمُ فغَيّرَا
يعني بقوله : «وعَضّى » : سَبّاهُمْ ، وقَطّعاهُمْ بألسنتهما .
وقال آخرون : بل هي جمع عِضَة ، جمعت عِضِين كما جمعت البُرَة بُرِين ، والعِزِة عِزِين . فإذَا وُجّه ذلك إلى هذا التأويل كان أصل الكلام عِضَهَة ، ذهبت هاؤها الأصلية ، كما نقصوا الهاء من الشّفَة وأصلها شَفَهَة ، ومن الشاة وأصلها شاهة . يدلّ على أن ذلك الأصل تصغيرهم الشفة : شُفَيْهة ، والشاة : شُوَيْهة ، فيردّون الهاءَ التي تسقط في غير حال التصغير إليها في حال التصغير ، يقال منه : عَضَهْتُ الرجل أعضَهُه عَضْها : إذا بَهَتّه وقذفته ببُهتان . وكأن تأويل من تأويل ذلك كذلك : الذين عَضَهوا القرآن ، فقالوا : هو سحْر ، أو هو شعر ، نحو القول الذي ذكرناه عن قتادة .
وقد قال جماعة من أهل التأويل : إنه إنما عَنَى بالعَضْه في هذا الموضع ، نسبتهم إياه إلى أنه سِحْر خاصة دون غيره من معاني الذمّ ، كما قال الشاعر :
*** للماءِ مِنْ عِضَاتهنّ زَمْزَمهْ ***
يعني : من سِحْرهنّ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة : الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قال : سحرا .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : عِضِينَ قال : عَضَهوه وبَهَتُوه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : كان عكرمة يقول : العَضْه : السحر بلسان قريش ، تقول للساحرة : إنها العاضهة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قال : سِحْرا أعضاء الكتب كلها وقريش ، فرقوا القرآن قالوا : هو سحر .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُعْلِم قوما عَضَهُوا القرآن أنه لهم نذير من عقوبة تنزل بهم بِعْضِهِهمْ إياه مثل ما أنزل بالمقتسمين ، وكان عَضْهُهُم إياه : قذفهموه بالباطل ، وقيلهم إنه شعر وسحر ، وما أشبه ذلك .
وإنما قلنا إن ذلك أولى التأويلات به لدلالة ما قبله من ابتداء السورة وما بعده ، وذلك قوله : إنّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئِينَ على صحة ما قلنا ، وإنه إنما عُنِيَ بقوله : الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ مشركي قومه . وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أنه لم يكن في مشركي قومه من يؤمن ببعض القرآن ويكفر ببعض ، بل إنما كان قومه في أمره على أحد معنيين : إما مؤمن بجميعه ، وإما كافر بجميعه . وإذ كان ذلك كذلك ، فالصحيح من القول في معنى قوله : الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قول الذين زعموا أنهم عَضَهوه ، فقال بعضهم : هو سحر ، وقال بعضهم : هو شعر ، وقال بعضهم : هو كهانة وأما أشبه ذلك من القول ، أو عَضّوْه ففرقوه ، بنحو ذلك من القول . وإذا كان ذلك معناه احتمل قوله «عِضِين » ، أن يكون جمع : عِضة ، واحتمل أن يكون جمع عُضْو ، لأن معنى التعضية : التفريق ، كما تُعَضى الجَزُرزِ والشاة ، فتفرق أعضاء . والعَضْه : البَهْت ورميه بالباطل من القول فهما متقاربان في المعنى .
التشبيه الذي أفاده الكاف تشبيه بالذي أنزل على المقتسمين .
و ( ما ) موصولة أو مصدرية ، وهي المشبه به .
وأما المشبه فيجوز أن يكون الإيتاءَ المأخوذ من فعل { آتيناك سبعاً من المثاني } [ سورة الحجر : 87 ] ، أي إيتاء كالذي أنزلنا أو كإنزالنا على المقتسمين . شُبّه إيتاء بعض القرآن للنبيء بما أنزل عليه في شأن المقتسمين ، أي أنزلناه على رسل المقتسمين بحسب التفسيرين الآتيين في معنى { المقتسمين } .
ويجوز أن يكون المشبّهُ الإنذارَ المأخوذَ من قوله تعالى : { إني أنا النذير المبين } [ سورة الحجر : 89 ] ، أي الإنذار بالعقاب من قوله تعالى : { فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون } [ سورة الحجر : 92 93 ] .
وأسلوب الكلام على هذين الوجهين أسلوب تخلّص من تسلية النبي إلى وعيد المشركين الطاعنين في القرآن بأنهم سيحاسبون على مطاعنهم .
وهو إما وعيد صريح إن أريد بالمقتسمين نفسُ المراد من الضميرين في قوله تعالى : { أزواجاً منهم ولا تحزن عليهم } [ سورة الحجر : 88 ] .
وحرف { على } هنا بمعنى لام التّعليل كما في قوله تعالى : { ولتكبروا الله على ما هداكم } [ سورة البقرة : 185 ] وقوله : { فكلوا مما أمسكن عليكم } [ سورة المائدة : 4 ] ، وقول علقمة بن شيبان من بني تيم الله بن ثعلبة :
ونطاعن الأعداء عن أبنائنا *** وعلى بصائرنا وإن لم نُبصر
ولفظ { المقتسمين } افتعال من قَسم إذا جَعل شيئاً أقساماً . وصيغة الافتعال هنا تقتضي تكلف الفعل .
والمقتسمون يجوز أن يراد بهم جمع من المشركين من قريش وهم ستّة عشر رجلاً ، سنذكر أسماءهم ، فيكون المراد بالقرآن مسمى هذا الاسم العَلَم ، وهو كتاب الإسلام .
ويجوز أن يراد بهم طوائف أهل الكتاب قَسّموا كتابهم أقساماً ، منها ما أظهروه ومنها ما أنسوه ، فيكون القرآن مصدراً أطلق بمعناه اللغوي ، أي المقروء من كتبهم ؛ أو قسّموا كتاب الإسلام ، منه ما صدّقوا به وهو ما وافق دينهم ، ومنه ما كذّبوا به وهو ما خالف ما هم عليه .