قوله : { كما أنزلنا على المقتسمين } فيه أقوال :
أحدها : أنََّ الكاف [ تتعلق ]{[19644]} ب " آتَيْنَاكَ " ، وإليه ذهب الزمشخريُّ فإنه قال : " أنزلنا عليك " ، مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب ، وهم المقتسمون : { الذين جعلوا القرآن عِضين } .
الثاني : أنه نعت لمصدر محذوف منصوب ب " آتَيْنَاكَ " تقديره : آتيناك إتياناً كما أنزلنا .
الثالث : أنه منصوب نعت لمصدر محذوف ، ولكنَّه ملاق ل " آتيْنَاكَ " ومن حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، تقديره : أنزلنا إليك إنزالاً كما أنزلنا ؛ لأنَّ " آتَيْنَاكَ " بمعنى أنزلنا إليك .
الرابع : أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف ، والعامل فيه مقدَّر أيضاً ، وتقديره : ومتعناهم تمتيعاً كما أنزلنا ، والمعنى : نعمنا بعضهم كما عذَّبنا بعضهم .
الخامس : أنه صفة لمصدر دلَّ عليه التقدير ، والتقدير : أنا النَّذير إنذاراً كما أنزلنا ، أي : مثل ما أنزلنا .
السادس : أنه نعتٌ لمفعول محذوف ، النَّاصب له : " النَّذيرُ " ، تقديره : النَّذيرُ عذاباً { كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين } وهم قوم صالح{[19645]} ؛ لأنهم قالوا : " لنُبَيتنَّه " {[19646]} وأقسموا على ذلك ، أو يراد بهم قريش حين قسموا القرآن إلى سحرٍ ، وشعرٍ ، وافتراءٍ .
وقد ردَّ بعضهم هذا : بأنه يلزم منه إعمال الوصف موصوفاً ، وهو غير جائز عند البصريين جائز عند الكوفيين ، فلو عمل ثمًَّ وصف جاز عند الجميع .
السابع : أنَّه مفعول به ناصبه : " النَّذيرُ " أيضاً .
قال الزمخشريُّ : " والثاني : أن يتعلق بقوله : { وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين } ، أي : وأنذر قريشاً مثل ما أنزلنا على المقتسمين ، يعني اليهود ، وما جرى على بني قريظة ، و النضيرِ " .
وهذا مردودٌ بما تقدَّم من إعمال الوصف موصوفاً .
قال ابن الخطيب{[19647]} : وهذا الوجه لا يتمُّ إلاَّ بأحد أمرين : إمَّا التزامُ إضمارٍ ، ِأو التزام حذفٍ .
أمَّا الإضمار فهو أن يكون التقدير : إني أنا النذير [ المبين ]{[19648]} عذاباً ، كما أنزلنا على المقتسمين ، وعلى هذا الوجه : المفعول محذوف ، وهو المشبه ، ودلَّ عليه المشبه به ، كما تقول : رأيت كالقمر في الحسن ، أي : رأيت إنساناً كالقمرِ في الحسن ، وأمَّا الحذف ، فهو أن يقال : الكاف زائدة محذوفة ، والتقدير : إني أنا النذير [ المبين ما ]{[19649]} أنزلناه على المقتسمين ، وزيادة الكاف له نظير ، وهو قوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] .
الثامن : أنه منصوب نعتاً لمفعولٍ به مقدر ، والناصب لذلك المحذوف مقدرٌ أيضاً لدلالة لفظ " النَّذِير " عليه ، أي : أنذركم عذاباً مثل العذاب المنزَّل على المقتسمين ، وهم قوم صالحٍ ، أو قريش ، قاله أبو البقاء{[19650]} -رحمه الله- وكأنه فرَّ من كونه منصوباً بلفظ " النَّذير " كما تقدَّم من الاعتراض البصريّ .
وقد ردَّ ابن{[19651]} عطية على القول السادس بقوله : والكاف في قوله : " كَمَا " متعلقة بفعلٍ محذوفٍ ، تقديره : وقل إنِّي أنا النذير المبين عذاباً كما أنزلنا ، فالكاف : اسم في موضعِ نصبٍ ، هذا قول المفسِّرين .
وهو غير صحيح ؛ لأنَّ : " كما أنزلنا " ليس ممَّا يقوله محمد -صلوات الله وسلامه عليه- بل هو من كلام الله –تعالى- فيفصل الكلام ، وإنَّما يترتب هذا القول بأن يقدر أن الله –تعالى- قال له : أنذر عذاباً كما .
والذي أقول في هذا المعنى : " وقل إنّي أنا النذيرُ المبين كما قال قلبك رسلنا وأنزلنا عليهم كما أنزلنا عليك " .
ويحتمل أن يكون المعنى : وقل : إنِّي أنا النذيرُ المبينُ ، كما قد أنزلنا في الكتب أنَّك ستأتي نذيراً على أن المقتسمين ، هم أهل الكتاب ، وقد اعتذر بعضهم عمَّا قاله أبو محمد فقال : الكاف متعلقة بمحذوف دلَّ عليه المعنى ، تقديره : أنا النذير بعذاب مثل ما أنزلنا ، وإن كان المنزل الله ، كما تقول بعض خواصِّ الملكِ : أمرنا بكذا ، وإن كان الملك هو الآمرُ .
وأما قول أبي محمدٍ : " وأنزلنا عليهم ، كما أنزلنا عليك " ؛ كلامٌ غير منتظم ، ولعلَّ أصله : وأنزلنا عليك كما أنزلنا عليهم : ، كذا أصلحه أبو حيان . وفيه نظر ، كيف يقدر ذلك ، والقرآن ناطق بخلافه ، وهو قوله : { عَلَى المقتسمين } .
التاسع : أنه متعلق بقوله : " لنَسَألنَّهُمْ " تقديره : لنسألنَّهم أجمعين ، مثل ما أنزلنا .
العاشر : أنَّ الكاف مزيدة ، تقديره : أنا النذير ما أنزلناه على المقتسمين .
ولا بد من تأويل ذلك على أنَّ " ما " مفعولٌ ب " النذير " عند الكوفيين ، فإنَّهم يعملون الوصف للموصوف ، أو على إضمار فعل لائقٍ أي : أنذركم ما أنزلناه كما يليق بمذهب البصريين .
الحادي عشر : أنه متعلق ب " قل " ، التقدير : وقيل قولاً كما أنزلنا على المقتسمين أنك نذير لهم ، فالقول للمؤمنين في النَّذارةِ كالقول للكفَّار المقتسمين ؛ لئلا يظنُّوا أنَّ إنذارك للكفار مخالف لإنذار المؤمنين ، بل أنت في وصف النذارة لهم بمنزلة واحدة ، تنذر المؤمن ، كما تنذر الكافر ، كأنه قال : أنا النذيرُ لكم ، ولغيركم .
قال ابن عبَّاسِ -رضي الله عنهما- : المقتسمون : هم الَّذين اقتسموا طرق مكَّة يصدُّون النَّاس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقرب عددهم من أربعين{[19652]} .
وقال مقاتل بن سليمان -رحمه الله- : كانوا ستَّة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيَّام الموسم ، فاقتسموا شعاب مكَّة ، وطرقها يقولون لمن سلكها : لا تغتروا بالخارج منَّا ، والمدعي للنبوَّة ، فإنه مجنونٌ ، وكانوا ينفِّرُونَ النَّاس عنه بأنه ساحرٌ ، أو كاهنٌ ، أو شاعرٌ ، فطائفة منهم تقول : ساحرٌ ، ، وطائفة تقول : إنه كاهنٌ ، وطائفة تقول : إنه شاعرٌ ، فأنزل الله عز وجل بهم خزياً ؛ فماتوا أشدَّ ميتة{[19653]} .
وروي عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنهم اليهود ، والنصارى { جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ } جزءوه أجزاء ، فآمنوا بما وافق التَّوراة ، وكفروا بالباقي{[19654]} .
وقال مجاهد : قسموا كتاب الله –تعالى- ففرقوه ، وبدلوه{[19655]} .
وقيل : قسَّموا القرآن ، وقال بعضهم : سحر ، وقال بعضهم : شعر ، وقال بعضهم : كذبٌ ، وقال بعضهم : أساطير الأولين .
وقيل : الاقتسام هو أنهم فرَّقوا القول في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : شاعرٌ ، وقال بعضهم : كاهنٌ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.