اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{كَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَى ٱلۡمُقۡتَسِمِينَ} (90)

قوله : { كما أنزلنا على المقتسمين } فيه أقوال :

أحدها : أنََّ الكاف [ تتعلق ]{[19644]} ب " آتَيْنَاكَ " ، وإليه ذهب الزمشخريُّ فإنه قال : " أنزلنا عليك " ، مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب ، وهم المقتسمون : { الذين جعلوا القرآن عِضين } .

الثاني : أنه نعت لمصدر محذوف منصوب ب " آتَيْنَاكَ " تقديره : آتيناك إتياناً كما أنزلنا .

الثالث : أنه منصوب نعت لمصدر محذوف ، ولكنَّه ملاق ل " آتيْنَاكَ " ومن حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، تقديره : أنزلنا إليك إنزالاً كما أنزلنا ؛ لأنَّ " آتَيْنَاكَ " بمعنى أنزلنا إليك .

الرابع : أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف ، والعامل فيه مقدَّر أيضاً ، وتقديره : ومتعناهم تمتيعاً كما أنزلنا ، والمعنى : نعمنا بعضهم كما عذَّبنا بعضهم .

الخامس : أنه صفة لمصدر دلَّ عليه التقدير ، والتقدير : أنا النَّذير إنذاراً كما أنزلنا ، أي : مثل ما أنزلنا .

السادس : أنه نعتٌ لمفعول محذوف ، النَّاصب له : " النَّذيرُ " ، تقديره : النَّذيرُ عذاباً { كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين } وهم قوم صالح{[19645]} ؛ لأنهم قالوا : " لنُبَيتنَّه " {[19646]} وأقسموا على ذلك ، أو يراد بهم قريش حين قسموا القرآن إلى سحرٍ ، وشعرٍ ، وافتراءٍ .

وقد ردَّ بعضهم هذا : بأنه يلزم منه إعمال الوصف موصوفاً ، وهو غير جائز عند البصريين جائز عند الكوفيين ، فلو عمل ثمًَّ وصف جاز عند الجميع .

السابع : أنَّه مفعول به ناصبه : " النَّذيرُ " أيضاً .

قال الزمخشريُّ : " والثاني : أن يتعلق بقوله : { وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين } ، أي : وأنذر قريشاً مثل ما أنزلنا على المقتسمين ، يعني اليهود ، وما جرى على بني قريظة ، و النضيرِ " .

وهذا مردودٌ بما تقدَّم من إعمال الوصف موصوفاً .

قال ابن الخطيب{[19647]} : وهذا الوجه لا يتمُّ إلاَّ بأحد أمرين : إمَّا التزامُ إضمارٍ ، ِأو التزام حذفٍ .

أمَّا الإضمار فهو أن يكون التقدير : إني أنا النذير [ المبين ]{[19648]} عذاباً ، كما أنزلنا على المقتسمين ، وعلى هذا الوجه : المفعول محذوف ، وهو المشبه ، ودلَّ عليه المشبه به ، كما تقول : رأيت كالقمر في الحسن ، أي : رأيت إنساناً كالقمرِ في الحسن ، وأمَّا الحذف ، فهو أن يقال : الكاف زائدة محذوفة ، والتقدير : إني أنا النذير [ المبين ما ]{[19649]} أنزلناه على المقتسمين ، وزيادة الكاف له نظير ، وهو قوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] .

الثامن : أنه منصوب نعتاً لمفعولٍ به مقدر ، والناصب لذلك المحذوف مقدرٌ أيضاً لدلالة لفظ " النَّذِير " عليه ، أي : أنذركم عذاباً مثل العذاب المنزَّل على المقتسمين ، وهم قوم صالحٍ ، أو قريش ، قاله أبو البقاء{[19650]} -رحمه الله- وكأنه فرَّ من كونه منصوباً بلفظ " النَّذير " كما تقدَّم من الاعتراض البصريّ .

وقد ردَّ ابن{[19651]} عطية على القول السادس بقوله : والكاف في قوله : " كَمَا " متعلقة بفعلٍ محذوفٍ ، تقديره : وقل إنِّي أنا النذير المبين عذاباً كما أنزلنا ، فالكاف : اسم في موضعِ نصبٍ ، هذا قول المفسِّرين .

وهو غير صحيح ؛ لأنَّ : " كما أنزلنا " ليس ممَّا يقوله محمد -صلوات الله وسلامه عليه- بل هو من كلام الله –تعالى- فيفصل الكلام ، وإنَّما يترتب هذا القول بأن يقدر أن الله –تعالى- قال له : أنذر عذاباً كما .

والذي أقول في هذا المعنى : " وقل إنّي أنا النذيرُ المبين كما قال قلبك رسلنا وأنزلنا عليهم كما أنزلنا عليك " .

ويحتمل أن يكون المعنى : وقل : إنِّي أنا النذيرُ المبينُ ، كما قد أنزلنا في الكتب أنَّك ستأتي نذيراً على أن المقتسمين ، هم أهل الكتاب ، وقد اعتذر بعضهم عمَّا قاله أبو محمد فقال : الكاف متعلقة بمحذوف دلَّ عليه المعنى ، تقديره : أنا النذير بعذاب مثل ما أنزلنا ، وإن كان المنزل الله ، كما تقول بعض خواصِّ الملكِ : أمرنا بكذا ، وإن كان الملك هو الآمرُ .

وأما قول أبي محمدٍ : " وأنزلنا عليهم ، كما أنزلنا عليك " ؛ كلامٌ غير منتظم ، ولعلَّ أصله : وأنزلنا عليك كما أنزلنا عليهم : ، كذا أصلحه أبو حيان . وفيه نظر ، كيف يقدر ذلك ، والقرآن ناطق بخلافه ، وهو قوله : { عَلَى المقتسمين } .

التاسع : أنه متعلق بقوله : " لنَسَألنَّهُمْ " تقديره : لنسألنَّهم أجمعين ، مثل ما أنزلنا .

العاشر : أنَّ الكاف مزيدة ، تقديره : أنا النذير ما أنزلناه على المقتسمين .

ولا بد من تأويل ذلك على أنَّ " ما " مفعولٌ ب " النذير " عند الكوفيين ، فإنَّهم يعملون الوصف للموصوف ، أو على إضمار فعل لائقٍ أي : أنذركم ما أنزلناه كما يليق بمذهب البصريين .

الحادي عشر : أنه متعلق ب " قل " ، التقدير : وقيل قولاً كما أنزلنا على المقتسمين أنك نذير لهم ، فالقول للمؤمنين في النَّذارةِ كالقول للكفَّار المقتسمين ؛ لئلا يظنُّوا أنَّ إنذارك للكفار مخالف لإنذار المؤمنين ، بل أنت في وصف النذارة لهم بمنزلة واحدة ، تنذر المؤمن ، كما تنذر الكافر ، كأنه قال : أنا النذيرُ لكم ، ولغيركم .

فصل

قال ابن عبَّاسِ -رضي الله عنهما- : المقتسمون : هم الَّذين اقتسموا طرق مكَّة يصدُّون النَّاس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقرب عددهم من أربعين{[19652]} .

وقال مقاتل بن سليمان -رحمه الله- : كانوا ستَّة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيَّام الموسم ، فاقتسموا شعاب مكَّة ، وطرقها يقولون لمن سلكها : لا تغتروا بالخارج منَّا ، والمدعي للنبوَّة ، فإنه مجنونٌ ، وكانوا ينفِّرُونَ النَّاس عنه بأنه ساحرٌ ، أو كاهنٌ ، أو شاعرٌ ، فطائفة منهم تقول : ساحرٌ ، ، وطائفة تقول : إنه كاهنٌ ، وطائفة تقول : إنه شاعرٌ ، فأنزل الله عز وجل بهم خزياً ؛ فماتوا أشدَّ ميتة{[19653]} .

وروي عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنهم اليهود ، والنصارى { جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ } جزءوه أجزاء ، فآمنوا بما وافق التَّوراة ، وكفروا بالباقي{[19654]} .

وقال مجاهد : قسموا كتاب الله –تعالى- ففرقوه ، وبدلوه{[19655]} .

وقيل : قسَّموا القرآن ، وقال بعضهم : سحر ، وقال بعضهم : شعر ، وقال بعضهم : كذبٌ ، وقال بعضهم : أساطير الأولين .

وقيل : الاقتسام هو أنهم فرَّقوا القول في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : شاعرٌ ، وقال بعضهم : كاهنٌ .


[19644]:في أ: متعلقة.
[19645]:سقط من: ب.
[19646]:سورة النحل : آية 49.
[19647]:ينظر: الفخر الرازي 19/168.
[19648]:سقط من: ب.
[19649]:سقط من: ب.
[19650]:ينظر: الإملاء 2/77.
[19651]:ينظر: المحرر الوجيز 3/374.
[19652]:ذكره الرازي في "تفسيره" (19/168).
[19653]:ينظر: المصدر السابق.
[19654]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/544) والبخاري (8/233) كتاب التفسير: باب قوله: الذين جعلوا القرآن عضين رقم (4705). وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/198) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور والحاكم والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم ابن مردويه من طرق.
[19655]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/544) وذكره البغوي في "تفسيره" (3/58).