فلما رأت مريم جبريل يقصد نحوها نادته من بعيد ، ف{ قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً } مؤمناً مطيعاً . فإن قيل : إنما يستعاذ من الفاجر ، فكيف قالت : إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً ؟ . قيل : هذا كقول القائل : إن كنت مؤمناً فلا تظلمني . أي : ينبغي أن يكون إيمانك مانعاً من الظلم ، كذلك هاهنا . معناه : ينبغي أن تكون تقواك مانعاً من الفجور .
{ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ ْ } أي . ألتجئ به وأعتصم برحمته ، أن تنالني بسوء . { إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ْ } أي : إن كنت تخاف الله ، وتعمل بتقواه ، فاترك التعرض لي ، فجمعت بين الاعتصام بربها ، وبين تخويفه وترهيبه ، وأمره بلزوم التقوى ، وهي في تلك الحالة الخالية ، والشباب ، والبعد عن الناس ، وهو في ذلك الجمال الباهر ، والبشرية الكاملة السوية ، ولم ينطق لها بسوء ، أو يتعرض لها ، وإنما ذلك خوف منها ، وهذا أبلغ ما يكون من العفة ، والبعد عن الشر وأسبابه .
وهذه العفة - خصوصا مع اجتماع الدواعي ، وعدم المانع - من أفضل الأعمال .
ولذلك أثنى الله عليها فقال : { وَمَرْيَمَ ابْنَة عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا ْ } { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ْ }فأعاضها الله بعفتها ، ولدا من آيات الله ، ورسولا من رسله .
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما دار بين مريم وبين جبريل من حوار ونقاش فقال : { قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } .
أى " قالت لجبريل - عليه السلام - الذى تمثل لها فى صورة بشر سوى : إنى أعوذ وألتجىء إلى الرحمن منك ، إن كنت ممن يتقى الله ويخشاه .
وخصت الرحمن بالذكر ، لتثير مشاعر التقوى فى نفسه ، إذ من شأن الإنسان التقى أن ينتفض وجدانه عند ذكر الرحمن ، وأن يرجع عن كل سوء يخطر بباله .
وجواب هذا الشرط محذوف ، وأن يرجع عن كل سوء يخطر بباله .
وجواب هذا الشرط محذوف ، أى إن كنت تقيا ، فابتعد عنى واتركنى فى خلوتى لأتفرغ لعبادة الله - تعالى - .
وبهذا القول الذى حكاه القرآن عن مريم . تكون قد جمعت بين الاعتصام بربها ، وبين تخويف من تخاطبه وترهيبه من عذاب الله . إن سولت له نفسه إرادتها بسوء . كما أن قولها هذا ، يدل على أنها قد بلغت أسمى درجات العفة والطهر والبعد عن الريبة ، فهى تقول له هذا القول ، وهى تراه بشراً سوياً ، وفى مكان بمعزل عن الناس . . .
وها هي ذي تنتفض انتفاضة العذراء المذعورة يفجؤها رجل في خلوتها ، فتلجأ إلى الله تستعيذ به وتستنجد وتستثير مشاعر التقوى في نفس الرجل ، والخوف من الله والتحرج من رقابته في هذا المكان الخالي : ( قالت : إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا )فالتقي ينتفض وجدانه عند ذكر الرحمن ، ويرجع عن دفعة الشهوة ونزع الشيطان . .
{ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا } أي : لما تَبَدى لها الملك في صورة بشر ، وهي{[18733]} في مكان منفرد وبينها وبين قومها حجاب ، خافته وظنت أنه يريدها على نفسها ، فقالت : { إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا } أي : إن كنت تخاف الله . تذكير{[18734]} له بالله ، وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل ، فخوفته أولا بالله ، عز وجل .
قال ابن جرير : حدثني أبو كُرَيْب ، حدثنا أبو بكر ، عن عاصم قال : قال أبو وائل - وذكر قصة مريم - فقال : قد علمت أن التقي ذو نُهْيَة حين قالت : { إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَتْ إِنّيَ أَعُوذُ بِالرّحْمََنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاَِهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } .
يقول تعالى ذكره : فخافت مريم رسولنا ، إذ تمثّل لها بشرا سويا ، وظنته رجلاً يريدها على نفسها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله إنّي أعُوذُ بالرّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِيّا قال : خشيت أن يكون إنما يريدها على نفسها .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فَتَمَثّلَ لَهَا بَشَرا سَوِيّا فلما رأته فزعت منه وقالت : إنّي أعُوذُ بالرّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِيّا .
فقالت : إني أعوذ أيها الرجل بالرحمن منك ، تقول : أستجير بالرحمن منك أن تنال مني ما حرّمه عليك إن كنت ذا تقوى له تتقي محارمه ، وتجتنب معاصيه لأن من كان لله تقيا ، فإنه يجتنب ذلك . ولو وجه ذلك إلى أنها عَنَت : إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تتقي الله في استجارتي واستعاذتي به منك كان وجها . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه قالَتْ إنّي أعُوذُ بالرّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِيّا ولا ترى إلا أنه رجل من بني آدم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر ، عن عاصم ، قال : قال ابن زيد : وذكر قَصَص مريم فقال : قد علمت أن التقيّ ذو نُهية حين قالت : إنّي أعُوذُ بالرّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِيّا قالَ إنّمَا أنا رَسُولُ رَبّكِ .
وقوله تعالى { أعوذ بالرحمن } الآية ، المعنى قالت مريم للملك الذي تمثل لها بشراً لما رأته قد خرق الحجاب الذي اتخذته ، فأساءت به الظن { أعوذ بالرحمن منك إن كنت } ذا تقى ، قال أبو وائل : علمت أن «التقي » ذو نهية ، وقال وهب بن منبه «تقي » رجل إسم رجل فاجر كان في ذلك الزمن في قومها فلما رأته متسوراً عليها ظنته إياه فاستعاذت بالرحمن منه ، حكى هذا مكي وغيره ، وهو ضعيف ذاهب مع التخرص .
للإشارة إلى كمال عصمتها إذ قالت : { إنِّي أعوذُ بالرحمن مِنكَ إن كُنتَ تقِيَّاً } ، إذ لم يكن في صورته ما يكره لأمثالها ، لأنها حسبت أنه بشر اختبأ لها ليراودها عن نفسها ، فبادرته بالتعوذ منه قبل أن يكلمها مبادرة بالإنكار على ما توهمته من قصده الذي هو المتبادر من أمثاله في مثل تلك الحالة .
وجملة { إنِّي أعوذُ بالرحمن مِنكَ } خبرية ، ولذلك أكدت بحرف التأكيد . والمعنى : أنها أخبرته بأنها جعلت الله معاذاً لها منه ، أي جعلت جانب الله ملجأ لها مما هَمّ به . وهذه موعظة له .
وذكرها صفة ( الرحمان ) دون غيرها من صفات الله لأنها أرادت أن يرحمها الله بدفع من حسبته داعراً عليها .
وقولها { إن كُنتَ تَقيّاً } تذكير له بالموعظة بأن عليه أن يتّقي ربّه .
ومجيء هذا التذكير بصيغة الشرط المؤذن بالشك في تقواه قصد لتهييج خشيته ، وكذلك اجتلاب فعل الكون الدال على كون التّقوى مستقرة فيه . وهذا أبلغ وعظٍ وتذكيرٍ وحثّ على العمل بتقواه .