ومن ذلك أيضا ، إيلاجه تعالى الليل بالنهار والنهار بالليل ، يدخل هذا على هذا ، وهذا على هذا ، كلما أتى أحدهما ذهب الآخر ، ويزيد أحدهما وينقص الآخر ، ويتساويان ، فيقوم بذلك ما يقوم من مصالح العباد في أبدانهم وحيواناتهم وأشجارهم وزروعهم .
وكذلك ما جعل اللّه في تسخير الشمس والقمر ، الضياء والنور ، والحركة والسكون ، وانتشار العباد في طلب فضله ، وما فيهما من تنضيج الثمار وتجفيف ما يجفف{[744]} وغير ذلك مما هو من الضروريات ، التي لو فقدت لَلَحِقَ الناس الضرر .
وقوله : { كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى } أي : كل من الشمس والقمر ، يسيران في فلكهما ما شاء اللّه أن يسيرا ، فإذا جاء الأجل ، وقرب انقضاء الدنيا ، انقطع سيرهما ، وتعطل سلطانهما ، وخسف القمر ، وكورت الشمس ، وانتثرت النجوم .
فلما بين تعالى ما بيَّن من هذه المخلوقات العظيمة ، وما فيها من العبر الدالة على كماله وإحسانه ، قال : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ } أي : الذي انفرد بخلق هذه المذكورات وتسخيرها ، هو الرب المألوه المعبود ، الذي له الملك كله .
{ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } من الأوثان والأصنام { مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } أي : لا يملكون شيئا ، لا قليلا ولا كثيرا ، حتى ولا القطمير الذي هو أحقر الأشياء ، وهذا من تنصيص النفي وعمومه ، فكيف يُدْعَوْنَ ، وهم غير مالكين لشيء من ملك السماوات والأرض ؟
ثم بين - سبحانه - نعما أخرى تتجلى فى الليل وفى النهار ، وفى الشمس والقمر ، فقال : { يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } .
أى : ومن مظاهر فضله عليكم ، ورحمته بكم ، أنه أوجد لكم الليل والهار بهذا النظام البديع ، بأن أدخل أحدهما فى الآخر ، وجعلهما متعاقبين ، مع زيادة أحدهما عن الآخر فى الزمان ، على حسب اختلاف المطالع ، والمغارب ، وأوجد - أيضا - بفضله ورحمته الشمس والقمر لمنعتكم ، وكل واحد منهما يسير بنظام بديع محكم ، إلى الأجل والوقت الذى حدده الله - تعالى - لانتهاء عمر هذه الدنيا .
والإِشارة فى قوله : { ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك . . } تعود إلى الخالق والموجد لتلك الكائنات العجيبة البديعة ، وهو الله - عز وجل - .
أى : ذلكم الذى أوجد كل هذه المخلوقات لمنفعتكم ، هو الله - تعالى - ربكم وهو وحده الذى له ملك هذا الكون ، لا يشاركه فيه مشارك ، ولا ينازعه فى ملكيته منازع { والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ } أى : والذين تعبدونهم من دون الله - تعالى - ، وتصفونهم بأنهم آلهة .
{ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } والقطمير : القشرة البيضاء الرقيقة الملتفة على النواة .
أو هو النقطة فى ظهر النواة ، ويضرب مثلاً لأقل شئ وأحقره .
أى : والذين تعبدونهم من دون الله - تعالى - لا يملكون معه - سبحانه - شيئاً . ولو كان هذا الشئ فى نهاية القلة والحقارة والصغر ، كالنكتة التى تكون فى ظهر النواة .
ويختم هذا المقطع بجولة كونية في مشهد الليل والنهار . ثم في تسخير الشمس والقمر وفق النظام المرسوم لجريانهما إلى الأجل المعلوم :
يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل . وسخر الشمس والقمر ، كل يجري لأجل مسمى . .
وإيلاج الليل في النهار والنهار في الليل قد يعني ذينك المشهدين الرائعين . مشهد دخول الليل في النهار ، والضياء يغيب قليلاً قليلاً ، والظلام يدخل قليلاً قليلاً حتى يكون الغروب وما يليه من العتمة البطيئة الدبيب . ومشهد دخول النهار في الليل حينما يتنفس الصبح ، وينتشر الضياء رويداً رويداً ، ويتلاشى الظلام رويداً رويداً ، حتى تشرق الشمس ويعم الضياء . . كذلك قد يعني طول الليل وهو يأكل من النهار وكأنما يدخل فيه . وطول النهار وهو يأكل من الليل وكأنما يدخل فيه . . وقد يعنيهما معاً بتعبير واحد . وكلها مشاهد تطوّف بالقلب في سكون ، وتغمره بشعور من الروعة والتقوى ؛ وهو يرى يد الله تمد هذا الخط ، وتطوي ذاك الخط ، وتشد هذا الخيط وترخي ذاك الخيط . وفي نظام دقيق مطرد لا يتخلف مرة ولا يضطرب . ولا يختل يوماً أو عاماً على توالي القرون . .
وتسخير الشمس والقمر وجريانهما للأجل المرسوم لهما ، والذي لا يعلمه إلا خالقهما . . هو الآخر ظاهرة يراها كل إنسان ، سواء كان يعلم أحجام هذين الجرمين ، ونوعهما من النجوم والكواكب ومدارهما ودورتهما ومداها : أم لا يعلم من هذا كله شيئاً . . فهما بذاتهما يظهران ويختفيان أمام كل إنسان ، ويصعدان وينحدران أمام كل بصر . وهذه الحركة الدائبة التي لا تفتر ولا تختل حركة مشهودة لا يحتاج تدبرها إلى علم وحساب ! ومن ثم فهي آية معروضة في صفحة الكون لجميع العقول وجميع الأجيال على السواء . وقد ندرك نحن اليوم علمها الظاهر أكثر مما كان يدرك المخاطبون بهذا القرآن لأول مرة . وليس هذا هو المهم . إنما المهم أن توحي إلينا ما كانت توحيه إليهم ، وأن تهز قلوبنا كما كانت تهز قلوبهم ، وأن تثير فينا من التدبر ورؤية يد الله المبدعة وهي تعمل في هذا الكون العجيب ما كانت تثير فيهم . . والحياة حياة القلوب . .
وفي ظل تلك المشاهد المتنوعة العميقة الدلالة القوية السلطان يعقب بتقرير حقيقة الربوبية ، وبطلان كل ادعاء بالشرك ، وخسران عاقبته يوم القيامة :
( ذلكم الله ربكم له الملك ، والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير . إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم . ولو سمعوا ما استجابوا لكم . ويوم القيامة يكفرون بشرككم . ولا ينبئك مثل خبير ) . .
ذلكم . الذي أرسل الرياح بالسحاب ، والذي أحيا الأرض بعد موتها ، والذي خلقكم من تراب ، والذي جعلكم أزواجاً ، والذي يعلم ما تحمل كل أنثى وما تضع ، والذي يعلم ما يعمر وما ينقص من عمره ، والذي خلق البحرين ، والذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى . . ذلكم هو ( الله ربكم ) . .
( له الملك ) . . ( والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ) . . والقطمير غلاف النواة ! وحتى هذا الغلاف الزهيد لا يملكه أولئك الذين يدعونهم من دون الله !
وهذا أيضًا من قدرته التامة وسلطانه العظيم ، في تسخيره الليل بظلامه والنهار بضيائه ، ويأخذ من طول هذا فيزيده في قصر هذا{[24499]} فيعتدلان . ثم يأخذ من هذا في هذا ، فيطول هذا ويقصر هذا ، ثم يتقارضان صيفًا وشتاء ، { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } أي : والنجوم السيارات ، والثوابت الثاقبات بأضوائهن أجرام السموات ، الجميع يسيرون بمقدار معين ، وعلى منهاج مقنن محرر ، تقديرًا من عزيز عليم .
{ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى }{[24500]} أي : إلى يوم القيامة .
{ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ } أي : الذي فعل هذا هو الرب العظيم ، الذي لا إله غيره ، { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } أي : من الأنداد والأصنام التي هي على صورة من تزعمون{[24501]} من الملائكة المقربين ، { مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمَة ، وعطاء وعطية العَوْفي ، والحسن ، وقتادة وغيرهم : القطمير : هو اللفافة التي تكون على نواة التمرة ، أي : لا يملكون من السموات والأرض شيئًا ، ولا بمقدار هذا القطمير .
القول في تأويل قوله تعالى : { يُولِجُ الْلّيْلَ فِي النّهَارِ وَيُولِجُ النّهَارَ فِي الْلّيْلِ وَسَخّرَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ يَجْرِي لأجَلٍ مّسَمّى ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } .
يقول تعالى ذكره : يدخل الليل في النهار ، وذلك ما نقص من الليل أدخله في النهار فزاده فيه ، ويولج النهار في الليل ، وذلك ما نقص من أجزاء النهار زاد في أجزاء الليل ، فأدخله فيها ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهارِ وَيُولِجُ النّهارَ فِي اللّيْلِ زيادة هذا في نقصان هذا ، ونقصان هذا في زيادة هذا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهارِ وَيُولِجُ النّهارَ فِي اللّيْلِ يقول : هو انتقاص أحدهما من الاَخر .
وقوله : وسَخّرَ الشّمْسَ والقَمَرَ كُلّ يَجْرَي لأَجَلٍ مُسَمّى يقول : وأَجْرى لكم الشمس والقمر نعمة منه عليكم ، ورحمة منه بكم ، لتعلموا عدد السنين والحساب ، وتعرفوا الليل من النهار .
وقوله : كُلّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّى يقول : كل ذلك يجري لوقت معلوم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَسَخّرَ الشّمْسَ والقَمَرَ كُلّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمّى أجل معلوم ، وحدّ لا يُقَصّر دونه ولا يتعدّاه .
وقوله : ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ يقول : الذي يفعل هذه الأفعال معبودكم أيها الناس الذي لا تصلح العبادة إلاّ له ، وهو الله ربكم ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ لَهُ المُلْكُ : أي هو الذي يفعل هذا .
وقوله : لَهُ المُلْكُ يقول تعالى ذكره : له الملك التامّ الذي لا شيء إلاّ وهو في ملُكه وسلطانه .
وقوله وَالّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ يقول تعالى ذكره : والذين تعبدون أيها الناس من دون ربكم الذي هذه الصفة التي ذكرها في هذه الاَيات الذي له المُلك الكامل ، الذي لا يُشبهه ملك ، صفته ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ يقول : ما يملكون قِشْر نواة فما فوقها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عوف ، عمن حدّثه ، عن ابن عباس في قوله : ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ قال : هو جلد النواة .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله مِنْ قِطْمِيرٍ يقول : الجلد الذي يكون على ظهر النواة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ يعني : قشر النواة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : مِن قِطْمِيرٍ قال : لفافة النواة كسحاة البيضة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ والقطمير : القشرة التي على رأس النواة .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن جُوَيبر ، عن بعض أصحابه ، في قوله : ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ قال : هو القِمع الذي يكون على التمرة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا مرّة ، عن عطية ، قال : القطمير : قشر النواة .
{ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى } هي مدة دوره أو منتهاه أو يوم القيامة . { ذلكم الله ربكم له الملك } الإشارة إلى الفاعل لهذه الأشياء . وفيها إشعار بأن فاعليته لها موجبة لثبوت الأخبار المترادفة ، ويحتمل أن يكون { له الملك } كلاما مبتدأ في قرآن . { والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير } للدلالة على تفرده بالألوهية والربوبية والقطمير لفافة النواة .
{ يولج } معناه يدخل ، وهذه عبارة عن أن ما نقص من { الليل } زاد { في النهار } ، فكأنه دخل فيه ، وكذلك ما نقص من { النهار } يدخل { في الليل } والألف واللام في { الشمس والقمر } هي للعهد ، وقيل هي زائدة لا معنى لها ولا تعريف{[9704]} وهذا أصوب ، و «الأجل المسمى » هو قيام الساعة ، وقيل آماد الليل وآماد النهار ، ف «أجل » على هذا اسم جنس ، وقرأ جمهور الناس «تدعون » بالتاء ، وقرأ الحسن ويعقوب «يدعون » بالياء من تحت ، و «القطمير » القشرة الرقيقة التي على نوى التمرة هذا قول الناس الحجة ، وقال جويبر{[9705]} عن رجاله «القطمير » القمع الذي في رأس التمرة ، وقاله الضحاك والأول أشهر وأصوب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل} انتقاص كل واحد منهما من الآخر...
{وسخر الشمس والقمر} لبني آدم {كل يجري لأجل مسمى} كلاهما دائبان يجريان إلى يوم القيامة.
{ذلكم الله ربكم له الملك} فاعرفوا توحيده بصنعه.
{والذين تدعون} الذين تعبدون {من دونه} الأوثان {ما يملكون من قطمير} آية قشر النوى الذي يكون على النوى الرقيق.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يدخل الليل في النهار، وذلك ما نقص من الليل أدخله في النهار فزاده فيه، ويولج النهار في الليل، وذلك ما نقص من أجزاء النهار زاد في أجزاء الليل، فأدخله فيها...
وقوله:"وسَخّرَ الشّمْسَ والقَمَرَ كُلّ يَجْرَي لأَجَلٍ مُسَمّى" يقول: وأَجْرى لكم الشمس والقمر نعمة منه عليكم، ورحمة منه بكم، لتعلموا عدد السنين والحساب، وتعرفوا الليل من النهار.
وقوله: "كُلّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّى "يقول: كل ذلك يجري لوقت معلوم...
وقوله: "ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ" يقول: الذي يفعل هذه الأفعال معبودكم أيها الناس الذي لا تصلح العبادة إلاّ له، وهو الله ربكم...
وقوله: "لَهُ المُلْكُ" يقول تعالى ذكره: له الملك التامّ الذي لا شيء إلاّ وهو في ملُكه وسلطانه.
وقوله: "وَالّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ" يقول تعالى ذكره: والذين تعبدون أيها الناس من دون ربكم الذي هذه الصفة التي ذكرها في هذه الآيات الذي له المُلك الكامل، الذي لا يُشبهه ملك، صفته "ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ" يقول: ما يملكون قِشْر نواة فما فوقها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يذكر هذا لأهل مكة لإنكارهم الصانع وإنكارهم البعث وإنكارهم الرسل لأنهم كانوا فرقا ثلاثا: منهم من يُنكر الصانع والتوحيد، ومنهم من ينكر البعث، ومنهم من ينكر الرسل. ففي الآية دلالة إثبات الصانع وتوحيده، وفيها دلالة البعث والإنشاء بعد الموت، وفيها دلالة إثبات الرسالة؛ أما دلالة إثبات الصانع والوحدانية ففي اتساق الليل والشمس والقمر وما ذكر وجريانها وجريان الأمور كلها على سنن وميزان واحد وقدر واحد، من أول ما كان إلى آخر ما يكون من غير زيادة أو نقصان يدخل فيه أو تقديم أو تأخير يكون فيه، يدل على أن لذلك كله صانعا مدبّرا أنشأ ودبّر كل شيء على ما كان.
ودل ذهاب الليل وتلفُه بكلّيته حتى لا يبقى له أثر، وكذلك ذهاب ضوء النهار ونوره، وكذلك الشمس والقمر، وإتيان الآخر بعد تلفه أنه بعث، إذ لو لم يكن بعث كان تدبير ذلك كله لعبا باطلا، وأن من قدر على هذا يقدر على الإحياء بعد الموت، وأنه لا يعجزه شيء، فإن ثبت ما ذكرنا أن يترك الله تعالى عباده سدى، لا يأمرهم، ولا ينهاهم، ولا يمتحنهم بأنواع المِحن؛ فلا بد من رسول يأمر وينهى ويُخبر عما لهم وعليهم.
{والذين تدعون من دونه ما يملكون من قِطمير} يُسفّه أحلامهم في عبادة من عبدوا دونه على علم منهم أنهم [لا] يملكون ما ذكر، وصرفهم العبادة عن الله على علم منهم أن ذلك كله من الله وهو المالك لذلك...
{والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير}، وههنا لطيفة: وهي أن الله تعالى ذكر لنفسه نوعين من الأوصاف أحدهما: أن الخلق بالقدرة الإرادة والثاني: الملك واستدل بهما على أنه إله معبود كما قال تعالى: {قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس} [الناس: 1-3] ذكر الرب والملك ورتب عليهما كونه إلها أي معبودا، وذكر فيمن أشركوا به سلب صفة واحدة وهو عدم الملك بقوله: {والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير} ولم يذكر سلب الوصف الآخر لوجهين أحدهما: أن كلهم كانوا معترفين بأن لا خالق لهم إلا الله وإنما كانوا يقولون بأن الله تعالى فوض أمر الأرض والأرضيات إلى الكواكب التي الأصنام على صورتها وطوالعها فقال: لا ملك لهم ولا ملكهم الله شيئا ولا ملكوا شيئا.
وثانيهما: أنه يلزم من عدم الملك عدم الخلق، لأنه لو خلق شيئا لملكه فإذا لم يملك قطميرا ما خلق قليلا ولا كثيرا.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَسَخَّرَ الشمس والقمر} عطفٌ على يُولج، واختلافُهما صيغةً لما أنَّ إيلاجَ أحدِ المَلَوينِ في الآخر متجددٌ حيناً فحيناً، وأمَّا تسخِّيرُ النيرِّينِ فأمرٌ لا تعدُّدَ فيه وإنَّما المتعددُ والمتجددُ آثارُه، وقد أُشير إليهِ بقولِه تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي} أي بحسبِ حركتِه الخاصَّةِ وحركتِه القسريةِ على المداراتِ اليوميَّةِ المُتعدِّدةِ حسب تعدُّدِ أيَّام السَّنةِ جَرياناً مستمرَّاً {لأِجَلٍ مُّسَمًّى} قدَّره الله تعالى لجريانهما وهو يومُ القيامةِ.
وقرئ يَدعُون بالياءِ التحتانيةِ. والقطميرُ لفافةُ النَّواةِ وهو مَثَلٌ في القلَّةِ والحقارةِ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويختم هذا المقطع بجولة كونية في مشهد الليل والنهار، ثم في تسخير الشمس والقمر وفق النظام المرسوم لجريانهما إلى الأجل المعلوم، وكلها مشاهد تطوّف بالقلب في سكون، وتغمره بشعور من الروعة والتقوى؛ وهو يرى يد الله تمد هذا الخط، وتطوي ذاك الخط، وتشد هذا الخيط وترخي ذاك الخيط، وفي نظام دقيق مطرد لا يتخلف مرة ولا يضطرب، ولا يختل يوماً أو عاماً على توالي القرون.. وتسخير الشمس والقمر وجريانهما للأجل المرسوم لهما، والذي لا يعلمه إلا خالقهما.. هو الآخر ظاهرة يراها كل إنسان، وقد ندرك نحن اليوم علمها الظاهر أكثر مما كان يدرك المخاطبون بهذا القرآن لأول مرة، وليس هذا هو المهم؛ إنما المهم أن توحي إلينا ما كانت توحيه إليهم، وأن تهز قلوبنا كما كانت تهز قلوبهم، وأن تثير فينا من التدبر ورؤية يد الله المبدعة وهي تعمل في هذا الكون العجيب ما كانت تثير فيهم، والحياة حياة القلوب.. وفي ظل تلك المشاهد المتنوعة العميقة الدلالة القوية السلطان، يعقب بتقرير حقيقة الربوبية، وبطلان كل ادعاء بالشرك، وخسران عاقبته يوم القيامة.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{ذلكم الله ربكم له الملك} الله تعالى هو الذي بيده الملك والملكوت، وعنده خزائن السماوات والأرض، فهو الخالق والرازق والمدبر الذي يدبر الأمر، وما يتصرف فيه الإنسان -انطلاقا من نفسه التي بين جنبيه- إنما هو عارية مستردة على وجه الارتفاق والانتفاع، ولا يملك أحد- على وجه التحقيق -ملكية مطلقة، حتى القشرة الرقيقة البيضاء، التي تفصل بين التمرة والنواة...